قمة الجبل الجليدي

يرى ريتشارد كلارك في كتابه “في مواجهة كل الأعداء”،أن الأمريكيين أصبحوا أكثر وطنية بعد الحادي عشر من سبتمبر، حيث التفوا حول بلدهم وحكومتهم، لكنه يرى أن هذه الوطنية تتسم بكونها عمياء، جعلت الكثير من الأمريكيين يؤيدون غزو العراق بشكل مطلق، ومن دون أي تساؤل أو جدل، وكما هي الحال في الحروب الأخرى! وقد ساهم “النجاح” الأمريكي في بداية الغزو وسقوط تمثال صدام حسين في تخفيف حدة المعارضة للحرب! فأمريكا وبرؤية الغالبية من مواطنيها، تسعى من خلال الحرب في العراق وأفغانستان إلى تحجيم القاعدة، المصدر الأول للإرهاب الذي يهدد أمن أمريكا واستقرارها! لكن “كلارك” يرى أن الصورة قد اختلفت الآن بعد أن تفاقم حجم التكلفة البشرية من جراء حرب أمريكا ضد الإرهاب، بالإضافة إلى ما أصبح متوافراً من معلومات تشير إلى خطأ الإدارة الأمريكية في التعامل مع الإرهاب في بدايته! فالمواطن الأمريكي يعلم الآن أن المستشار الرئاسي “جورج تينيت” قد سبق أن أشار إلى خطر “القاعدة” في أكثر من أربعين مناسبة، وذلك قبل الحادي عشر من سبتمبر. إن الرئيس الأمريكي سبق أن علق على واحدة من تلك المناسبات بقوله إن أمريكا لا تريد أن تطارد أو تضرب الذباب! في إشارة واضحة إلى عدم جدية الخطر المحتمل من “القاعدة”! بمعنى آخر، إن الإدارة الأمريكية لم تبذل جهوداً ملموسة لما يتعلق بالإرهاب فيما قبل الحادي عشر من سبتمبر، بالرغم من كل التحذيرات التي أوصلها “جورج تينيت” إلى سمع الرئيس الأمريكي!
ونحن هنا في الكويت لا يختلف موقفنا تجاه الإرهاب عن الموقف الأمريكي المتساهل في البداية. فما نعاني منه الآن سبق أن حذر منه الكثير من المدركين لمخاطر السياسة المتساهلة تجاه التطرف الديني، وما وقع من سيناريو مخيف راح ضحيته شبابنا، هو بالتحديد السيناريو الذي كتبت فيه مجلدات! أما الآن وقد اتضحت الرؤية وأصبحت معها تكلفة العمليات الإرهابية المتطرفة مرهقة وقاسية، فقد بدأت لغة المسؤولين تتلون بالمصطلحات التي سبق أن شككوا في مصداقيتها وبدأت معها مؤتمراتهم تتحدث عن “الفئة الضالة” وخطر التطرف الديني، وضرورة الحد من توظيف الدين والعقيدة سياسياً وفكرياً!
المشكلة الآن أن آليات التصدي للإرهاب لا تختلف في تطرفها عن أدوات وأساليب المتطرفين أنفسهم! ففي كلتا الحالتين تقوم المواجهة على أساس إلغاء الآخر أولاً! وهو أمر قد يضاعف من حدة المواجهة ويعمقها، وكما رأينا في المثال السعودي، والكويتي على حد سواء! فهؤلاء المتطرفون ليسوا نبتاً شيطانياً، ولا هم بفئة شاذة خارجة عن تقاليد المجتمع وطبيعته! والتعامل معهم بهذا الشكل يعني تحجيماً للمشكلة وتقليلاً من شأنها وتبعاتها! فهؤلاء نتيجة لفكر ساد في المجتمع الكويتي ولأكثر من عقدين من الزمن! فكر قام على إلغاء الآخر ونبذه، فكر استقر في مناهجنا وإعلامنا وفي تقييمنا للحضارات وللثقافات الأخرى! فكر رحب به واستقطبه وبكل أسف أعلام سياسية بارزة في مجتمعنا السياسي، وتحت سمع ونظر المسؤولين الذين غيروا مواقعهم بعد الهجمات الأخيرة!
نحن الآن في الكويت لسنا في مواجهة أفراد أو حتى جماعات، أصبحت فجأة “ضالة” في تعريف الحكومة، وإنما نحن في مواجهة فكر يتطلب أدوات أخرى بخلاف آلة السلاح التي لن تكفي وحدها لتحسم مواجهة شرسة لاتزال في رحم المستقبل، وذلك بعد أن انحسرت المياه بعض الشيء عن قمة الجبل الجليدي الراسخ في مجتمعنا.