حين يصبح العنف شرعياً!

حادثة مقتل الرهبان السبعة في الجزائر، هي بلا شك حادثة مقززة ومؤسفة في آن واحد، فهي من جهة تعبر عن التدهور الأمني ارتباطاً بعجلة الصراع الدائر في الجزائر، بالإضافة إلى كونها طعنة نافذة في التسامح الديني وإمكانية تعايش الأديان في مناخ سلمي ومستقر.
غير أن الحادثة، كما غيرها من حوادث عنف كثيرة، أصبحت تثير تساؤلات محرجة بشأن قدرة الإنسان الفائقة على ارتكاب العنف، وعلى ممارسة العدوانية بوجه عام.
لقد حاول إنسان العصر الحديث، وفي مراحل وأحداث مختلفة، أن ينفي ارتباط العنف بالتكوين البشري، فخرجت نظريات اجتماعية وسيكولوجية، وسياسية كثيرة، سعى أغلبها للارتقاء بالجنس البشري عن “حاجة” العنف هذه، والتي رأت فيها تلك النظريات أساساً حيوانياً وبدائياً، يصبح من الصعب ومن المحرج بل والمخجل أحياناً أن تكون صفة بشرية خالصة تعود ممارساتها إلى بداية الحياة البشرية بوجه عام، حين كان العنف “حاجة” للاستمرار والبقاء. لقد دفع الإنسان الكثير جراء العنف، سواء من أمنه واستقراره، أو من حقه في التنمية والنهوض، أو من حقه في البقاء والحفاظ على حياته. ولقد حصدت المعارك، وحروب الإبادة أرواحاً كثيرة، ودمر العنف أطفالاً، وأجيالاً، وأعراقاً بشرية بأكملها.
ولا يزال واقع العنف هذا قائماً، على الرغم من كل التحولات التكنولوجية والعلمية، وكل الإنجازات البشرية التي نشهدها الآن.. مما جعل من أشكال العنف التي تُنسب للإنسان، من قتل أطفال، واغتصاب، وقتل جماعي، وخطف واغتيال، وتعذيب، جعل منها ممارسات “شاذة” بالمقارنة مع درجة المدنية والرقي التي وصل إليها الجنس البشري. لا شك أن المدنية والتحضر والتكنولوجيا قد عجزت جميعاً عن تحويل وتهذيب تلك “الحرية” البدائية البيولوجية، بل باستطاعتنا القول هنا أن للتكنولوجيا دوراً رائداً في إثراء العنف البشري، بما سخرت له من أدواتها وما قدمته من تطور هائل في الصناعات العسكرية التي فاق عنفها ومقدرتها على التدمير كل ما بحوزة البشر من قدرات عدوانية وعنفية! لقد سئمت البشرية كل هذا العنف، مما جعل التفكير جاداً الآن في محاصرة الأسباب المولدة للعنف، سواء بيولوجية أو اجتماعية أو سياسية، وذلك بهدف الحد من تفاقمها وتزايدها، فأصبحنا نسمع اليوم بمحاولات لإخضاع عوامل جينية وراثية “لتهذيب” معملي، بعد أن أصبح جزءاً كبيراً من العنف البشري يعود إلى أسباب هرمونية بحتة؟ بالإضافة إلى محاولات سياسية واجتماعية تهدف إلى إحلال حريات مجتمعية، وحقوق مدنية وسياسية، بدلاً من “حرية” العنف البدائية و”حق” العدوانية البيولوجي.
لا يختلف عنف الجزائر عن عنف السويد، ولا عنف المشرق عن عنف المغرب.. ففي نهاية المطاف تبقى الطبيعة البشرية واحدة. وإن كان للحنكة والإدارة السياسية دورهما الوقائي ولا نقول الشفائي، وذلك من خلال إحلال الحريات والحقوق المدنية والتي تضمن التعامل السلمي بين أفراد المجتمع الواحد.
غير أن الواقع من حولنا لا يقول بذلك التشابه بين الجزائر والسويد، ولا بين المشرق والمغرب بل لقد أصبحت درجة الاختلاف بين تلك المجتمعات من الضخامة إلى درجة كادت تطيح بحقيقة وحدة التكوين البشري!! ولا يزال العنف أكبر حجماً في المجتمعات اللاصناعية أو بمجتمعات العالم الثالث، ولا يزال العنف في الجزائر، وفي إيران، وفي لبنان، وباكستان، وأمريكا الجنوبية.. طاغياً على الحياة السياسية والاجتماعية! لأن “حرية” العنف البدائية قد صادرتها الدولة لصالحها، ليصبح، بذلك، العنف مشروعاً بل وجزءاً من العمل السياسي للدولة، فأصبح هنالك عنف شرعي تمارسه الدولة، وعنف لا شرعي يمارسه الشعب!!