دعوة مزيفة.. للحرية

دعوة مزيفة.. للحرية
التكهنات حول مصير العراق.. وسبل خلاصه من أزمته الراهنة، كانت دائماً محور حديث ونقاش، لم يتوقف ولو للحظة واحدة منذ تفجرت الأحداث في المنطقة.
وقد يكون من الصعب التكهن بسيناريو محدد لإمكانية التغيير في العراق، خاصة في ظل التغيرات والمستجدات الدولية والإقليمية، وإن كان ذلك لا يمنع أن تكون هنالك مشاهد للتغيير في العراق أكثر واقعية وفعالية من غيرها. وسواء كان التغيير بثورة أو بانقلاب أو باغتيال وسواء قام به الجيش أو المعارضة الداخلية أو الخارجية. فإن تاريخ العمل السياسي في العراق يشترط مبادرة من القوى الديمقراطية لأخذ زمام الأمور. لأن أي تغيير لا تساهم فيه مباشرة كل القوى الديمقراطية سيكون تغييراً مؤقتاً ومفتعلاً لا فاعلاً.
من المهام الأساسية لتلك القوى، بناء مجتمع متماسك تسوده الحرية والرأي الحر، وتنتشله من عالم الخوف والرعب أياد بريئة من دماء الأبرياء وحقوقهم البشرية.
ذلك هو الشرط المنطقي للتغيير في العراق والذي بلا شك قد تجاهلته الدول الخليجية التي رحبت بدعوة نظام العنف والخوف وقبلت أن تُنشد الشعر والنثر وسط أنين الشيوخ والأطفال الجياع من الشعب العراقي. ورضيت بأن تُخلد الأدب والتراث تحت سياط الاغتراب والتشرذم الذي أصبح يعيشه الفرد العراقي داخل القطر وخارجه.
المشاركة الخليجية في مهرجان “المربد” هي دعوة صريحة للصفح عن صدام حسين لا عن العراق كشعب وأرض. بل لقد كان هذا المهرجان وحتى في سنوات الوفاق عنواناً لإرضاء نرجسية الطاغية ولتحقيق رغباته الشوفينية العنيفة. وبحيث لم يخرج يوماً عن ذلك الإطار الضيق من الرؤية والغرض. حتى لقد انعكس ذلك على طرح الحضور من شعراء البلاط والسلاطين.
إن المساهمة الخليجية في مهرجان “المربد” لا تؤكد على سذاجة الوعي بطبيعة صدام حسين المراوغة وحسب، بل هي تقف شاهدةً على قصور في الوعي بالحريات البشرية الأساسية، وعلى تغييب لأهمية الوعي والنهج الديمقراطي لدى المنادين بعودة العراق مقيداً وأسيراً بأغلال صدام حسين.
لقد انطلقت المواقف المؤيدة لغزو صدام حسين للوطن معبرة عن طبيعة القوى والأنظمة التي ساندت العدوان، فكان المؤيدون للغزو آنذاك يمثلون أنظمة تمارس الإرهاب والقمع في فرض سياساتها وآرائها. وهو واقع يعكس بلا شك قناعات تلك القوى. فلم يأت تأييد واحد للاجتياح من نظام ديمقراطي صحيح.. يحترم الحق البشري، والكرامة الإنسانية، ويدين أفراده بالديمقراطية وحق تقرير المصير.
ومن هنا فقد جاءت الدعوة الخليجية للصفح عن صدام حسين لتعكس درجة القصور في الوعي والحس الديمقراطي الذي تعاني منه دول الخليج. مؤكدة بذلك على خلل واضح في الوعي السياسي لدول المنطقة، وفي ترتيب أولويات مصالح الشعوب بوجه عام. وبذلك فهي تأتي اليوم مؤكدة ضرورة تنمية الوعي الديمقراطي لدول المنطقة، وتفعيل الحس بالحقوق البشرية وبالمبادئ الأساسية التي نصت عليها وثيقة الإعلان عن حقوق الإنسان.
قد يخطئ من يرى في الدعوة المبطنة لعودة صدام حسين إلى الحظيرة العربية، إساءة للكويت بلداً وشعباً وحسب. فالمتضرر الرئيس من هذه الدعوة هو العراق والشعب العراقي، فهو الخاسر الأكبر بعد رحلة طويلة من المعاناة، والدم، والتشرذم والرعب والخوف، يعود معها أسياد الجريمة إلى قصورهم، وعروشهم.
لقد ساهم الواقع السياسي العربي بوجه عام في خلق صدام حسين وفي بقائه قوياً متعافياً رغم كل مظاهر العنف والقتل التي كان يرتكبها بحق شعبه قبل جيرانه، وتلك حقيقة لن يستطيع أي منا أن يتبرأ منها أو أن ينفيها. ولقد ساهمت الخلافات العربية في استمرار صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية على الرغم من كل مشاهد الدمار التي حلت بالأرض وبالشعب.
وسيبقى صدام حسين نبتة شيطانية ترعاها انقساماتنا وجهلنا السياسي. وإن كنا لا نبخس الطاغية حقه في إشارة إيجابية من وراء كل ما فعله. فلقد أخرج للعيان – بقصد أو بدون قصد – حقيقة الهوة السحيقة التي تفصل بين واقع العرب السياسي.. وبين أحاديث السياسة العربية، وبين ما يفعله الساسة منهم وما يقولونه. وهي هوة باقية ما بقيت الديمقراطية في عالمنا العربي مغيبة ومفتعلة. لقد طرحت حرب الخليج شرط الديمقراطية كركن أساسي في البناء السياسي لدول الخليج. وأكدت الأحداث المتعاقبة أن أي خلاص للعراق بدون اعتماد الديمقراطية مدخلاً له، سيكون عهداً جديداً لطاغية جديد. ومن هنا فإن المساهمة في خلاص العراق، تشترط مساهماً ديمقراطياً يعترف بالحقوق البشرية وبالحرية، لكي يكون في مساهمته مصداقية وصدى، تدفع إلى خلاص بلا زيف.
المساهمة في “المربد” هي دعوة مزيفة للخلاص، وإقرار بحق صدام حسين في البقاء، وسلب لحقوق المعنيين، والمهجرين، والخائفين من أفراد الشعب العراقي!!
