شئون عربية

في بيروت فنجان قهوة.. وسياسة

في بيروت فنجان قهوة.. وسياسة

هناك ملاحظة لا بد وأن الكثير من أبناء هذا الوطن قد لاحظها.. وهي ملاحظة تتعلق بالطلبة من خريجي الجامعات اللبنانية – حيث إنه وحتى قبل إنشاء جامعة الكويت.. كان أكثر الطلبة غالباً ما يتمون تحصيلهم العلمي في القاهرة أو في بيروت.. وكان لخريجي الجامعات اللبنانية رونقاً آخر.. وصبغة مختلفة تميزهم.. وذلك لانفتاحهم على أكثر المجتمعات السياسية العربية حداثة وصخباً. فبيروت يومها كانت عاصمة الحرية التي تصرح بكل الحوارات السياسية والاجتماعية، وكانت مقاهيها تستضيف اللاجئ السياسي – والمغترب وطالب العلم.. والباحث عن الرزق.. ومنتدياتها ترحب دوماً بكل أشكال الحوار الذي تضيق به بقية الدول العربية، إلى أن عصفت أحداث الحرب الأهلية بأرجائها.. وامتدت آثار تلك الحرب إلى كل قطر عربي.. وهاجرت العقول التي لم تجد لها ملاذا يستقبلها كما كانت تستقبلها بيروت.
ولكن لماذا حدث ما حدث؟! ولماذا لبنان بالذات دون غيرها من الدول!!
وكيف كان رد فعل الأنظمة.. ولن أقول الشعوب العربية.. لما حدث؟؟
إن ما حدث لم يكن مصادفة. بل لقد اختير الزمان والمكان وبالذات لبنان لإشعال تلك الحرب التي جردت لبنان من صفة الدولة النموذج في المنطقة بأسرها.. ولتصبح الصفة قصراً على إسرائيل.. فقد جاء وقت على لبنان أصبحت في موقع منافس لديمقراطية ونمو الدولة اليهودية، وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت أن تحقق نصراً عسكرياً على الأمة العربية منذ قيامها.. فإن ذلك قد يكون من الصعب تحقيقه وإلى جوارها دولة تنمو نمواً سياسياً حديثاً بمفهوم العصر.. وتساهم في نمو غيرها من الدول العربية.
فاليهود الذين كانوا يبتهجون بأن العرب قوم لا يقرؤون.. يقلقهم أن تجاورهم عاصمة كانت دوماً منارة فكر لغيرها من الدول.. هذا إلى جانب أن الصورة التي قامت عليها إسرائيل.. وهي صورة غير شرعية بكل المقاييس تكاد أن تكون الصورة الشاذة الوحيدة في دول المنطقة.. لذلك فإن الأحداث التي اشتعلت في لبنان جعلت من إسرائيل وهي التي قامت على أساس غير شرعي.. قوامه القتل الجماعي.. والتهجير.. والعنف.. ليست هي الدولة الوحيدة الضالعة في ممارسة العنف والقتل.. بل لقد أصبحت تجاور دولة عربية يقتل فيها المواطنون بني جلدتهم. فجاء انهيار النموذج اللبناني.. مكسباً واستقراراً أكثر للنموذج الإسرائيلي.. الذي أصبح الآن هو وحده النموذج الديمقراطي الحقيقي في المنطقة.. فكانت الحرب الأهلية الشرسة في لبنان.. حدثاً أضفى مزيداً من الشرعية. والحق في التواجد والبقاء لإسرائيل.
ثم جاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 82.. والذي وإن كان قد أدى إلى احتلال جزء هام من لبنان إلا أن المكسب الأكبر الذي جنته إسرائيل من خلاله هو توجيه ضربة مباشرة إلى الأنظمة العربية.. والتي أصبحت في مواجهة الامتحان الصعب في كيفية التصدي للقضايا التي تمس الكيان العربي بأكمله.. تلك الأنظمة التي استطاعت من قبل أن تبرر هزائمها في الحروب السابقة، إلى أن جاءت حرب 82 والتي وإن لم تكن كغيرها من الحروب. حرب مواجهة بالجيوش النظامية والعتاد إلا أنها جاءت لتكون حرب موقف.. وكما تحدثنا التفاصيل فقد كان موقف الأنظمة العربية متخاذلاً وضعيفاً. وذلك بعدم اتخاذها موقفاً صريحاً وواضحاً لدعم صمود المقاومة والحركة الوطنية اللبنانية.
بل لقد كان اختبار بيروت تأكيداً لا يقبل الشك على مدى ارتباط تلك الأنظمة بمصالح الذين أشعلوا النار في لبنان. وليؤكد أيضاً حقيقة التصدعات التي أصابت الجبهة العربية.. والتي لم تكن قائمة أساساً على صيغ حقيقية وواضحة، فجاءت الجهود العربية في العام 82 بإقناع المقاومة الفلسطينية بالانسحاب وعلى الرغم من كل النصر الذي حققته مع الحركة الوطنية اللبنانية في التصدي للآلة العسكرية الإسرائيلية، ولا حاجة لذكر ما تبع ذلك الانسحاب من بيروت من مجازر بحق المدنيين في صبرا وشاتيلا.. ولتخرج بذلك إسرائيل الرابح الوحيد من تلك الحرب.
الآن وبعد أن مضت سنوات الحرب الشرسة الطويلة.. يعود الاستقرار من جديد ليلف أرجاء لبنان.. وعلى الرغم من التطورات التي ترى أنه استقرار هش. إلا أن ما آلت إليه الأوضاع العربية إجمالاً.. وخاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية.. وتلاشٍ إن لم يكن انتهاء التهديد العربي الإسرائيلي، في ظل ظروف كهذه.. وأوضاع اختلفت وتبدلت معها كل المقاييس التي كانت تحكم الصراع العربي الإسرائيلي، لم يعد هناك داع أو حاجة لإثارة النزاع، والقلاقل في لبنان، خاصة بعد أن أصبحت إسرائيل وبالفعل الدولة النموذج في المنطقة.. وأصبحت ديمقراطيتها وانتخاباتها حديث أجهزة إعلامنا.. بل وأصبح السلام وبحسب الشروط والمواصفات الإسرائيلية على الأبواب.
الآن.. وبعد انقضاء تلك الحقبة من الأحداث.. هل يعود لبنان إلى مكانه السابق الذي كان عليه قبل الحرب؟! بمعنى هل سيعود لبنان ليكون منارة للفكر والثقافة.. أم ستشغله ظروف الإعمار.. ويصبح بنكاً استثمارياً كبيراً لرؤوس الأموال العربية؟!
قد يكون الاحتمال الثاني هو الأقوى والأكثر حضوراً.. خاصة في ظل قيادة الوجيه الثري “رفيق الحريري” الذي يعمل على زج جزء لا يستهان به من ثروته.. وثروة فريق كبير من رجال الأعمال العرب في عملية إعادة الإعمار. فجهود وإسهامات الرئيس “الحريري” المالية قد استطاعت استقطاب الكثير من الأدمغة السياسية.. الذين أصبحوا يرون مستقبلهم من خلال ثروته الطائلة.
لقد كان لبنان دوماً عاصمة العرب الاقتصادية والسياسية والثقافية لكن سنوات طويلة من الدمار والخراب.. قد تؤجل إلى حين مسار بيروت الثقافي.. وهو تأجيل سيفتقد المواطن العربي من خلاله المصدر الوحيد لمؤلفات الرأي الحر والإصدارات التي تخلو من بطش مقص الرقيب، خاصة وإن القارئ العربي هو الآن – أكثر من أي وقت مضى – بحاجة إلى جهد كبير على مستوى المثقف العربي للقيام بعملية نقد للذات جريئة وصادقة لا تقوى على الإتيان بها سوى مطابع بيروت. والتي بتوقفها صودر النقد والنقد الذاتي.. وموهت الكثير من الأحداث السياسية وأعطيت صفات مغايرة ومخادعة.. ولن يعيد القارئ العربي إلى نقطة البداية.. سوى فنجان قهوة في إحدى مقاهي بيروت العائدة من سنوات الحرب الطويلة.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى