شئون عربية

انحناءة الملك

انحناءة الملك

لم تغب عن الأذهان بعد، صورة طفلة “قانا” التي تدلى عنقها المذبوح من نافذة سيارة إسعاف في تلك القرية المنكوبة، وفي ذلك الشهر الأغبر.
ولعلّ ذلك من سوء حظ “الشريف” حسين ملك الأردن. الذي أعاد للأذهان ذلك المشهد الحزين، وهو ينحني “إجلالاً” لمأساة الإسرائيليين، ويعانق متأثراً أسر الضحايا التي وافقت على استقباله.
لا شك أننا جميعاً ندين الإرهاب أياً كان مصدره، وأياً كانت دوافعه. وسواء كانت الضحايا من تلميذات المستوطنات، أم كانوا أطفال وأزهار “قانا”. فإن مسألة إقحام أرواح بريئة في صراع سياسي قبيح ومتجذر، هي دائماً ستكون مسألة مرفوضة من العقل الواعي، والعدالة العمياء.
غير أن تعاطف الملك “حسين” مع ضحايا الإرهاب في إسرائيل، دون أن يُبدي تعاطفاً مشابهاً مع ضحايا العرب من لبنانيين وفلسطينيين، بل وحتى أردنيين. يؤكد أن عدالة البعض ليست بالضرورة عمياء، بل هي مصابة بالحول إن لم تكن عوراء.
إن الإرهاب سواء كان إرهاباً عربياً أم إسرائيلياً، ليس هو محور الخلاف والجدل الرئيسي في المنطقة. وسواء كانت العمليات الإرهابية في قلب لبنان أم في الأراضي المحتلة، فإنه وفي جميع الحالات يكون أمراً طبيعياً ومتوقعاً في ظل الظروف التي تعيشها الأطراف المتصارعة.
فالمصافحة التاريخية بين ياسر عرفات وإسحق رابين في حديقة البيت الأبيض، قد أكدت “حقوق” كل من الطرفين. وأيدت “الحق” الإسرائيلي في التوسع والاستيطان بينما جاء “الحق” الفلسطيني تعذيباً وقمعاً وإذلالاً بإشراف مباشر للشرطة الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء.
لذا فإن الإرهاب وفي مثل هذه الحالة يأتي كبديل مفروض لا خيار فيه للحرب العربية الإسرائيلية.. التي لم تكتمل بعد.
هنالك ولا شك توجه كبير يدعو لاستثناء الحسم العسكري في الصراع العربي – الإسرائيلي وهو توجه قائم على عوامل كثيرة، أبرزها الآثار المدمرة التي خلفتها الحروب العربية الإسرائيلية على العالم العربي بوجه عام. والتي أجلّت برامج التنمية وأربكتها. هذا بالإضافة إلى الدعم والمساعدات الغربية العسكرية لإسرائيل والتي كانت دائماً تُقلص كل المحاولات العسكرية العربية للخروج بأدنى قدر من الكسب أو النصر في الحرب مع إسرائيل.
ولقد ساعد ذلك اليأس الجماهيري، النخب العربية الحاكمة في إصرارها على السعي نحو مخرج السلام الوحيد والمتبقي، بصورة تحول الصراع فيها من نضال حول حقوق شرعية مسلوبة ومنتهكة، إلى صراع بين السلام ودعاته من جهة، وبين العنف والإرهاب وأدواته من جهة أخرى.
لا أحد يكره السلام، والعيش بأمان وطمأنينة، غير أن السلام بأي شكل وبأي صورة لا يمكن أن يؤدي إلى أمن واستقرار ما لم يستند إلى خلفية وواقع سياسي قابل لأن يكون معه حقيقة وفعلاً، لا مجرد توقيع أو بصم على أوراق حتى وإن كانت في حديقة البيت الأبيض المزهرة.
لقد أثبتت إنحناءة الملك “حسين” وقبلات “عرفات” رئيس السلطة الفلسطينية، أن بقاء واستمرار بعض النُخب العربية الحاكمة هو رهن القبول الإسرائيلي، وإن تأييد واشنطن لها ودعمها يمر عبر إسرائيل.
ومن هنا فقد كان تعاطف ملك الأردن مع ضحايا “الإرهاب العربي” من الإسرائيليين، أمراً منطقياً بحتاً يفرضه ذلك الارتباط الأزلي بواشنطن وباللوبي الصهيوني، والذي أخرجته إلى العلن حوارات “كامب ديفيد” التي “أنهت” الصراع العربي – الإسرائيلي، لصالح الخنوع العربي التام.
لقد أكدت انحناءة الملك “حسين” أن معوقات السلام في المنطقة ليست الإرهاب والعنف. بل في ذلك الارتباط الذليل بالمصالح الإسرائيلية والتي تبرر المشاعر العاطفية الجياشة التي أبداها الملك تجاه ضحايا “الإرهاب” العربي، بينما كان “مضطراً” لأن يكبتها في مجزرة “قانا” ومأساتها.
معضلة السلام الآن، هي في انحناءة الحسين وقبلات عرفات، قبل أن تكون في رصاصات الجندي الأردني. مشكلة التطبيع وإنهاء الصراع تكمن في عزل المواطن العربي عن “ثمار السلام” أما أزمة المنطقة الحقيقية فهي في جهود منسقي مسيرة السلام التي تدعو إلى مرحلة جديدة، من خلال خطاب قديم بالٍ، يشترط إنساناً بلا مواقف، وشعباً بلا حق.
“ثم هل جاء زمان
فيه نستقبل إسرائيل بالورد
وآلاف الحمائم، والنشيد الوطني.
فلقد سقونا من شراب
يجعل الإنسان من غير مواقف.
ثم أعطونا مفاتيح الولايات
وسمونا ملوكاً للطوائف”

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى