شئون عربية

البديل الأمريكي

البديل الأمريكي”

نشرت “الطليعة” في عددها الصادر بتاريخ 26 مايو 93.. تفاصيل ندوة أقامها معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تحت عنوان “تحديات المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط عقبات وفرص”. حيث حدد “مارتن إنديك” مدير شؤون الشرق الأوسط وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.. حدد معالم النهج الذي تنتهجه إدارة الرئيس الأمريكي “كلينتون” في الشرق الأوسط.
لقد أكد التقرير ضمن بنوده ضرورة الاحتواء المزدوج لإيران والعراق.. وسياسة الاحتواء ليست بجديدة في الواقع السياسي الأمريكي.. فهي السياسة التي اتبعتها أمريكا لاحتواء سياسات الاتحاد السوفيتي التوسعية بعد الحرب الثانية.. توخياً لفرض الهيمنة الأمريكية على دول العالم غير الشيوعي.. وقد استهدفت تلك السياسة تحقيق المصالح الأمريكية والغربية بالوسائل السلمية المدعومة بالتهديد العسكري المبطن… وذلك بعد أن برهن الاتحاد السوفيتي على قدراته العسكرية الكبيرة أثناء الحرب الثانية.. وبعد أن تعبت شعوب العالم من الحرب.. وحيث تبنت القيادة الأمريكية سياسة الاحتواء تلك.. وأخذت بدعم الأنظمة الرأسمالية والموالية للسياسة الأمريكية.. وها هي سياسة الاحتواء تعود من جديد لإعلان نفسها.. ولكن في ظل ظروف مختلفة.. تجعل من أمريكا القوة المسيطرة في العالم.. دون مظاهر التنافس المعهود إبان الحرب الباردة.
إن ما يثير الانتباه في هذا التقرير.. ليس في حقيقة وطبيعة المصالح الأمريكية في المنطقة بوجه عام.. ولكنه بكل التأكيد الذي جاء في ندوة “مارتن آنديك” تلك بشأن قضيتين أساسيتين في المنطقة.. قد يكون تزايد الاهتمام الأمريكي بهما.. راجع إلى تزايد القلق الأمريكي بشأنها.. وهما أولاً: قضية خلق البدائل المقبولة – من وجهة النظر والمصالح الأمريكية – للأنظمة الفاشلة وغير المستقرة في منطقة الشرق الأوسط.. خاصة مع تزايد تكلفة مساندة بعض الأنظمة.. والقضية الثانية: هي قضية التطرف الديني وامتداداتها.. والتي قد يكون حادث تفجير مركز التجارة الدولي بنيويورك قد أثارها.. وإن لم ينشئها.
القضية الأولى.. أكدها التقرير من خلال التأكيد على ضرورة عدم التعامل مع المنطقة على كونها أجزاء منفصلة.. وحيث ورد في التقرير “إن النزاعات والاضطرابات في جزء من المنطقة يمكن أن يكون لها تأثير خطير على الأحداث في مكان آخر”.. وتلك حقيقة أكدتها أحداث حرب الخليج.. والصواريخ العراقية التي جعلت من السعودية.. وإسرائيل هدفاً واحداً للصواريخ والاعتداءات العراقية.. وقد يكون في استمرار نظام الحكم في العراق على الرغم من مضي ما يقارب أكثر من عامين على هزيمته في حرب الخليج.. قد أكد حاجة الولايات المتحدة إلى طرح بدائل لأنظمة كنظام بغداد.. وحيث إن استمرارية الحكم هنا.. لا علاقة لها بقوته وقدرته على الاستمرار.. بقدر ما هي عجز عن تصور بديل للنظام في العراق.. خاصة وأن الظروف في الأنظمة العربية الأخرى لا تختلف كثيراً عن ظروف النظام في العراق.. من حيث افتقادها للبدائل.. أو لكون البدائل المطروحة.. هي في أغلبها بدائل ذات نزعة تطرفية دينية.. قد تعيق فرص الاستقرار بصورة أكبر.. لكونها لا تحظى بالقبول المطلوب في مجتمعاتها.. إضافة إلى كونها بدائل تحمل لواء المعاداة للغرب.. والعداء القوي لإسرائيل.. وإبعاد القوى الأجنبية عن المنطقة. خاصة وأن التجربة الأمريكية السابقة.. في عدم الحرص على توفير البدائل في إيران.. والتي ساعدت الثورة الإيرانية على فرض نفسها كواقع وبديل.. هذه التجربة وتداعياتها.. ما زالت عالقة في ذهن صانع القرار الأمريكي.. وقد حرص “أنديك” على ذكرها في تلك الندوة من خلال وجهة النظر الأمريكية الداعية إلى الضرورة “بتبني تصور بديل يتمثل بالتنمية السياسية الديمقراطية”. وحيث تم تأكيد التقرير على ضرورة توفير دعم أقوى للمؤتمر الوطني العراقي.. كبديل ديمقراطي لنظام حكم صدام حسين.
لقد أثار التقرير الكثير من القضايا المتعلقة بمستقبل المنطقة.. والتي يصعب إيجازها في مقال قصير كهذا.. إلا أن من القضايا الهامة التي أثارها التقرير.. قضية التطرف الديني.. والتي بدا وأن التقرير قد تناولها بحدة أقل بكثير مما كان متوقعاً.. خاصة بعد أن امتد نطاق التطرف ليشمل المصالح الغربية.. كالتفجيرات الإرهابية.. والاعتداءات المتكررة.. كاعتداءات جماعات التطرف في مصر على السياح الغربيين. وحيث أكد التقرير أنه “يجب علينا ألا نعتبر جميع المصلحين الدينيين متطرفين”. وهي لهجة تختلف عن اللهجة التي استخدمها التقرير في التأكيد على ضرورة حماية المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة. فعلى الرغم من تأكيد التقرير على ضرورة السعي لتطبيق الديمقراطية.. وحقوق الإنسان في المنطقة.. وإعانة الحكومات فيها على إيجاد حياة لشعوبها أفضل من تلك التي يعرضها دعاة العنف والتطرف.. إلا أن حكومة كلينتون “لا تعارض وجود حكومة إسلامية في إيران” وإنما تشجع فقط على “إحداث تغيير في سلوك إيران” وذلك انطلاقاً من “واقع أن نوايا إيران الخطرة تفوق قدراتها في هذه المرحلة.. غير أن هذه المرحلة لن تدوم طويلاً”.
إذن فواقع التطرف الذي تعاني منه شعوب كثيرة في المنطقة.. (يرغب) التقرير في مد يد العون لها.. ومساعدتها في انتهاج الديمقراطية.. ليس من ضمن أولويات السياسة الأمريكية.. حتى وإن فُجّرت المباني الأمريكية في عقر دارها بفعل الإرهاب.. أو قتل المواطن الأمريكي بفعل الإرهاب ذاته.. فالطموحات المتواضعة للجماعات الدينية.. لا تشكل تهديداً للوجود ولا للمصالح الأمريكية الغربية في المنطقة.. ولا تحمل في إطارها نزعات التحرر التي كانت تتبناها الحركات الوطنية في المنطقة، والإصلاحات التي تنادي بها الحركات الدينية..
هي إصلاحات هامشية لا تصل إلى أعماق وجذور الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري لشعوب المنطقة. فالتطرف الديني لن يمس مباشرة المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.. فكل ما يسعى إليه الخطاب الديني لا يتجاوز الحكم بما أنزل الله.. وتطبيق الشريعة.. وتلك أمور لا تمس مباشرة المصالح الغربية في المنطقة.. لذلك فقد جاءت الإشارة في تقرير “أنديك” إلى “احتمال إشاعة عدم الاستقرار في المنطقة” من قبل الحركات العنيفة التي تتستر بصبغة دينية.
التقرير بصورة عامة يطرح تساؤلات كثيرة.. عن مقومات السيادة.. وتقرير المصير التي ما زالت بحوزة دول المنطقة.. وعن مدى أفضلية البدائل والخطط القادمة.. عن الأوضاع القائمة فعلاً.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى