شئون عربية

ميراث الهزيمة

ميراث الهزيمة

منذ فجر هزيمة حرب حزيران عام 1967، والإنسان العربي يعاني من حالة الخضوع والاستسلام للواقع والقبول به مهما بلغت مرارته، ومن ضمن ما استسلم له الإنسان العربي قبول البعض بمقولة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهَر، وبالتالي تَقَبّل بقاء الكيان الصهيوني في أراضي ما بعد 1967 كأمر واقع، حتى أصبحت كل مطالب عودة الحق لأهله مختَصَرَة على ما فقده العرب في تلك الحرب، وليس فيما اغتصبته العصابات الصهيونية في عام 1948.
لم تنفع، طوال أكثر من خمسة عقود، كل المحاولات لتحفيز العقل العربي وانتشاله من حالة الهزيمة والخنوع والانهزام الفكري الذي لم يَسلَم منه حتى الشعر والأدب والثقافة والفنون.
لقد اكتفينا كأمة عربية وطوال تلك الحقبة بترديد شعارات “ثورة حتى النصر” و”ما أُخِذَ بالقوة لا يُستَرَد إلا بالقوة”. وقعنا جميعاً في فخ الوهم بانتصار لا يستند إلى أدنى أساس من الواقع، تقاذفتنا أمواج الصراعات الإقليمية العبثية، التي ضاعفت من وطأة إحساسنا بالهزيمة والانكسار، أصبحنا رهن رحمة المجتمع الدولي ومؤسساته وبياناته على أمل أن تجود علينا بمخيمات تقي اللاجئين قسوة الشتاء ولهيب الصيف، أو بقرارات تبقى حائرة وعاجزة عن الخروج إلى العَلَن، قرارات تدّعي حماية المنطقة من تداعيات الحروب والمعارك، نستجديها بنفس مهزومة ومنكسرة على الرغم من أن جميعها، إما بقيت في أدراج المنظمات الدولية، أو أنها ضاعفَت من حالة التوتّر السائدة، تندب شعوبنا كل يوم حالها المُنكَسِر، وتنعي استقرارها ورخائها، وتُعلِن خوفها الدائم من القادم مستقبلاً، يسقط الشهداء، وتتدنّس المقدسات وتُنتَهك الحُرُمات، وتُقصَف البيوت الآمنة. ونحن مستمرون في مزاولة الصمت، الذي أصبح، على ما يبدو، وبفعل انكسارنا وحده النشاط المُباح.
وجدنا في طوفان الأقصى طاقة نجاة من حالة الانهزام التي اعترتنا عِبر أكثر من خمسة عقود، ثم جاءت حرب الجنوب في لبنان لتعيد شيئاً من فروسية القتال، التي كدنا أن ننساها، مع رفض لواقع مهين فجّرته قوى المقاومة، لعلنا نتعلم على ضوئها ما جاء به القران الكريم: ﵟإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡﵞ ﵝالرَّعۡد : ﵑﵑﵜ F، ومع ذلك فإن هنالك من لا يزل مُصراً، جاهلاً أو متجاهلاً، على ترسيخ حالة الانهزام في النفس العربية، حتى لقد أصبح لدينا اليوم ما يمكن وصفه بثقافة الانهزام، هؤلاء يُردّدون كل يوم أن مواجهة الكيان الصهيوني هي في حُكم المستحيل، وبأن فِعْل المقاومة سيرتد سلباً، إن آجلاً أو عاجلاً، وأن الاستسلام لشروط العدو هي من باب الحكمة والحنكة السياسية، وبأن الجيوش العربية مُجتَمِعة قد أخفقت مراراً في التصدي لآلة العدوان والحرب الإسرائيلية، وأن روح اليأس والإحباط المُهيمنة على النفس العربية ستدفعنا حتماً يوماً ما للقبول بكل ما يفعله هذا الكيان من قتل وتشريد وتدمير بُنى تحتية وفوقية لدول وشعوب عربية في مقابل سلام هش ومشبوه وناقص.
الشخصية الانهزامية لا تَهزِمُ إلا نفسها، وهذا بالتحديد ما أصبحنا نعاني منه كعرب، يدعمه شعور بعدم الثقة وعدم اليقين بأي فعل قد يصدر عن أطراف من بيننا، نحن جميعنا لا نزال وبكل أسف ضحايا هزيمة 1967، ولا يزال جرحنا مفتوحاً تتوارثه الأجيال، أصبحنا في حالة من الانكسار والانهزام نورّثها وننقلها لأبنائنا دون وعي، نُكذّب في دواخلنا أي مقاومة باسلة تُلغي حالة الهزيمة التي تعترينا، دفعتنا هزائم متتالية لأن نلجأ للماضي، نبحث فيه عن نشوة انتصار، أو قبس من كرامة.
مارسنا الهزيمة والانكسار عِبر أكثر من خمسة عقود، واسترخصنا دمنا فأهدره العدو، ولأن المهزوم لا يستطيع المناورة ولا المبادرة، فقد بقينا عِبر هذه السنوات نجتر مرارة الهزيمة ونخشى المفاجأة، حتى وإن كانت في صفّنا، ومن هنا كانت شكوك البعض في جدوى المقاومة، لكنها اليوم أصبحت لغة الشعوب، ومئات الآلاف من الجرحى والمهجّرين والمقموعين والمُبادين الذين سيعرفون الطريق يوماً لخلع رداء الهزيمة والانكسار، وارتداء خوذة الأمل في تغيير التاريخ واستعادة الكرامة بدمائهم وأيديهم ونضالهم.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى