شئون دولية

أمريكا… وإدارة الحرب والسلام

جريدة الطليعة 1998/9/30

لقد أكدت الأزمة الأخيرة مع العراق، أن مشكلتنا الأساسية لا تكمن في أننا نتعامل مع نظام أهوج، مغرور مندفع ومتهور وحسب، وإنما هي أساساً في أن النظام العالمي الجديد الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية لا يقل اندفاعاً ولا تهوراً وغروراً!! بحيث انعكست صفات ذلك النظام الوليد على كل القضايا التي أفرزها مناخ ما بعد الحرب الباردة!! وكانت معها التصريحات والقرارات الأمريكية محط استياء وتذمر!! فعلى الرغم من التكرار الأمريكي المتواصل بحرص أمريكا على الالتزام بالمؤسسة الدولية ممثلة بالأمم المتحدة، إلا أن وزيرة خارجيتها تناقض ذلك من خلال تصريحاتها، كتصريحها عند زيارتها لأوروبا الذي قالت فيه “لست ذاهبة إلى أي مكان لطلب الدعم، إنني ذاهبة لأشرح موقفنا”.

أما تصريحها بخصوص الموقفين الفرنسي والروسي من الأزمة الأخيرة.. فهو يدل على درجة الغرور التي أصبح عليها الموقف الأمريكي ممثلاً بوزيرة خارجيتها حيث تقول في تعليقها على ذلك الموقف: “إن الولايات المتحدة وبريطانيا مستعدتان لاستعمال القوة أحبت باريس وموسكو ذلك أم لم تحبا”.
إن البعض الذي توهم بجدية الموقف الأمريكي إبان الأزمة الأخيرة، وبالتحديد جديته فيما يتعلق بإزاحة صدام حسين، لا شك قد جهل ذلك الجانب من العقلية الأمريكية!! ففي مقال لوزيرة الخارجية “مادلين أولبرايت” نشرته مؤخراً مجلة “نيوزويك” تقول الوزيرة: “إن قلب نظام صدام يتطلب التزاماً عسكرياً أكبر بكثير وهو يمثل خطراً أكبر على حياة الأمريكيين”. أما عن المعارضة العراقية في المنفى فقد اعتبرتها أولبرايت مقسمة حالياً، بحيث من الخطأ: “أن نعلق آمالاً خاطئة وأن ننتظر أشياء صعبة التحقيق وقد تنتهي بالدم وبهزيمة”.
نحن بكل تأكيد قد لا نلوم الإدارة الأمريكية هنا على عدم إطاحتها بصدام حسين، غير أن الدور الذي اختارته الولايات المتحدة، وأصبحت تلعبه منذ انهيار المعسكر الشيوعي، لا شك يفرض عليها مسؤوليات كثيرة، قد يكون أحدها تدهور الوضع الأمني والمعيشي في هذه المنطقة خاصة في ظل هزيمة العراق وبقاء الحزب الحاكم تحت قيادة “صدام حسين“.
إن المسؤولية الأمريكية الحالية، في ظل غياب الثنائية القطبية، والتي عمدت الولايات المتحدة كراعية ومسؤولة عن النظام العالمي الجديد، تجعلنا مجبرين على أن نحمل واشنطن مسؤولية تدهور الأوضاع في العراق بسبب استمرار “صدام حسين”، بالإضافة إلى مسؤوليتها عن الفوضى السياسية والتي خلفتها قرارات وثيقة الاستسلام العراقية بما نصت عليه من مناطق آمنة، وحدود مرسومة للطيران التي اتضح مع الوقت أنها ليست آمنة على الإطلاق، بل هي مناطق نزاع وفوضى تسيطر عليها بعض جماعات المعارضة العراقية، وتمارس فوقها صراعاتها وحروبها!!
لقد أصبح المجتمع الأمريكي والأوروبي مدركاً للمسؤولية الأمريكية المباشرة لتدهور الأوضاع في المنطقة، ولعل في المظاهرات الأخيرة التي خرجت منددة بالعمل العسكري ضد العراق، والتي اجتاحت عواصم ومدن أمريكية وأوروبية، ما يؤكد قناعة هؤلاء بالمسؤولية التي تتحملها واشنطن تجاه استمرار الوضع الراهن المتدهور والخطير في منطقة الخليج بشكل عام!!
لقد تحملت وحملت الإدارة الأمريكية، ومنذ سقوط المعسكر الشيوعي إدارة شؤون العالم السياسية والاقتصادية!! وتلك مسؤولية قد رحبت بها الإدارة الأمريكية ومارستها بصورة رأى فيها الكثيرون تطرفاً وغروراً واندفاعاً!! أدى في أحيان كثيرة إلى استياء المجتمع الدولي وتذمره!! فجاء فشل الإدارة الأمريكية في هاييتي وفي الصومال فشلاً متوقعاً نتيجة للعنجهية الأمريكية في العمل!!
وكما فشلت الإدارة الأمريكية في الحرب، كذلك فشلت في السلام!! فكان أن تجمد مشروع السلام العربي الإسرائيلي عند نقطة البداية، لأن القوة التي مارستها الآلة العسكرية، أو الضغوط السياسية الأمريكية لا يمكن استخدامها في الحالة الإسرائيلية!!
هناك مشكلة رئيسية تواجهها الإدارة الأمريكية في قيادتها وإشرافها على العالم. وهي مشكلة القوة التي تتحلى بها الولايات المتحدة، يعززها في ذلك كم هائل من السلاح المتطور والبالغ الدقة، وتكنولوجيا في إدارة الحروب ولعل المشكلة في ذلك، أن تلك القوة الهائلة قد ساهمت في هذا الاندفاع والتهور الأمريكي الملحوظ في حسم قضايا وصراعات من حولها!! فكان تعاملها مصبوغاً بقوة لم تخل من هيمنة وفرض، ولا مراعاة فيه لشعوب ودول أضعف!! مما أدى إلى تشوه صورة النظام العالمي الجديد، وإلى شكوك حول جدوى الحسم بالقوة وبالسلاح وحول احتمالات استمرار أي من تلك الجهود الأمريكية العالمية!!
لقد اختارت أمريكا الزعامة الكونية، وقبلت طوعاً إدارة شؤون الحرب والسلام في عالمنا اليوم!! لذا فإن اتهام الإدارة الأمريكية بالتهاون مع “صدام حسين” وبمسؤوليتها المباشرة في بقائه هي تهم شرعية ومقبولة!! واستياء الكثيرين من القرار الأمريكي باحتواء صدام بدلاً من إسقاطه، كما جاء على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية، هو استياء مشروع، بعد أن غطى الصوت الأمريكي على كل الأصوات الأخرى!!

جريدة الطليعة 1998/9/30

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى