شئون دولية

حين تكون الديمقراطية عقاباً

حين تكون الديمقراطية عقاباً

في إحدى مسرحيات “عادل إمام الساخرة” يسأل ضابط الشرطة.. عادل إمام الذي يؤدي دور الشاب الساذج البسيط المسالم يسأله عن سبب بقائه في عمارة سكنية تسكنها راقصة!! وحيث كانت إجابة “عادل إمام” أنه لو كل من يسكن في عمارة تقطنها راقصة.. قد رفض ذلك واضطر إلى تغيير مسكنه.. لبات نصف السكان في الشوارع!!
بلا شك، أن الولايات المتحدة تسلك المنطق نفسه في تبريرها لغزو “هايتي”.. حيث حشدت الإدارة الأمريكية الجهود، لتخرج بتفويض من المجتمع الدولي “باستخدام كافة الوسائل الضرورية”.. مما يعني استخدام القوة.. لإعادة الديمقراطية من خلال إعادة الرئيس المنتخب في عام 1990 “أريستيد” وتنحية الحكومة العسكرية.. التي تسلمت القيادة إثر انقلاب عسكري في الجزيرة!
لو تمعنا في خارطة العالم السياسية.. ونحن نحمل في أذهاننا منطق “عادل إمام” في المسرحية الساخرة.. لرأينا إذاً.. وفقاً لمنطق التدخل الأمريكي في هايتي.. أن أمام الإدارة الأمريكية، بشقيها السياسي والعسكري، مسؤولية دعم الديمقراطية ومساندتها في ما يقارب المائة وثلاث عشرة دولة، تم تصنيفها بأنها دول غير حرة!! وذلك وفقاً للمفهوم الديمقراطي الحديث!!
لقد أثارت أزمة “هايتي” الجدل الدائم حول طبيعة الأساليب والطرق الصحيحة نحو تطبيق النظام والنهج الديمقراطي السليم!! وعما إذا كان بالإمكان اعتبار التطبيق القسري للديمقراطية في أي مجتمع كان يعد واحداً من تلك الأساليب!! خاصة وأن التبرير الرئيسي لاستخدام القوة في “هايتي” والذي تمسكت به الإدارة الأمريكية، قد اعتمد على توفير الحق للشعب في هايتي للتمتع بالديمقراطية!!
وذلك أمر عارضه الكثير بلا شك ممن استرسل في الحديث عن الأهداف الأمريكية الحقيقية دون التطرق للتبرير الأمريكي بدعم الديمقراطية، وذلك لسذاجة الطرح أولاً، ولوضح الأهداف الأمريكية ثانياً!! والتي هي، بحسب رأي “مارتن وولا كوت” الكاتب في صحيفة “الغارديان” البريطانية غير عادلة حيث رأى أنه يبدو أن من قدر دول صغيرة وعاجزة عملياً عن الدفاع عن نفسها في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى، مثل غرينادا مع ريغان وبنما مع بوش، أن يتم اختيارها للتعبير عن العدل العسكري الأمريكي المثالي.. وغالباً بعد أن يكون رئيس أمريكي قد نكص على عقبيه في مناطق أخرى وصار يشعر بالحاجة إلى عرض للفضائل العسكرية”.
التطبيق القسري للديمقراطية يحمل في محتواه سلباً للحرية وانتهاكاً للإرادة الفردية.. فالحرية والديمقراطية هما وجهان لعملة واحدة!! وحده المواطن الحر هو الذي يخلق وطناً حراً، تأتي فيه القوانين والمؤسسات تعبيراً عن إرادته!!
أما أن يأتي تطبيق الديمقراطية كنوع من العقاب محمولاً بالطائرات الحربية وقاذفات القنابل، فإن ذلك ولا شك يعتبر نفياً لكرامة الإنسان وإلغاءً لوجوده ككائن حر ومسؤول!! وهي بذلك تفترض مسبقاً في مثال “هايتي” أن الإنسان ليس حراً أساساً، بل وليس كائناً، وإنما شيئاً يتم تشكيله من قبل سلطات وقوى تملك نفوذاً وسلطة للقيام بذلك!!
الديمقراطية، قبل أن تكون نظاماً سياسياً أو اجتماعياً، هي إحساس من قبل الفرد أولاً.. بحاجته إلى مناخ حر، يستطيع من خلاله التحرك والتفكير والعمل!! والمجتمعات التي تتميز بمناخ وحس ديمقراطي.. هي كذلك فقط لأن المواطن فيها قد استشعر طمأنينة المناخ الحُر.. وهو بذلك حريص على أن يسود ويبقى!!
ما يقلق حقاً في قضية “هايتي”.. ليس ما يتعلق منه بالأسلوب العنيف في دعم الديمقراطية.. وإنما بالمصير الذي ينتظر العالم.. في ظل القيادة الفردية الأمريكية، وانتهاء التوازن المعهود الذي ساد العالم إبان الحرب الباردة!! ذلك التوازن للقوى المسيطرة الذي مكن دولاً كثيرة من الاستمرار في إطار نظام سياسي واقتصادي مخالف للنظام الرأسمالي الغربي الذي تروج له وتدعمه الإدارة الأمريكية!! فهو الذي مكن بلداً مثل “كوبا” من تحقيق إنجازات دون الحاجة للعون الأمريكي، حيث قضت على الأمية بشكل حاسم وجذري، وأقامت نظاماً صحياً وضماناً اجتماعياً ميزاها عن دول أمريكا اللاتينية الأخرى كما تمتعت “كوبا” بإنجازات على المستوى الأكاديمي والعلمي!! على الرغم من أن “كوبا” تختلف اختلافاً جذرياً عن جارتها الأمريكية في ما يتعلق بنظامها السياسي والاقتصادي!! وهو ما تحاول الإدارة الأمريكية أن تثيره بكونه خروجاً عن النظام والقانون الدولي الذي أصبح عليه أن يكون مطابقاً للنظام والقانون الأمريكي!! ففرضت الحصار على “كوبا” ومنعت الشركات الأمريكية من الاقتراب من الأسواق الكوبية.. وأخيراً أوقفت تحويلات المهاجرين الكوبيين إلى عائلاتهم في “كوبا”!!
لا جدال في أن للحرية والديمقراطية مذاقاً حلواً وطعماً رائعاً!! حين تسودان مجتمعاً ما.. غير أن للإرادة الحرة طعماً أحلى ومذاقاً أروع!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى