شئون دولية

معادلة السلاح والدواء

معادلة السلاح والدواء

تُنفق شركات السلاح في العالم المليارات لإنتاج القنابل والأسلحة الفتاكة بهدف إشعال الحروب والنزاعات وقتل البشر. في المقابل، تنشط شركات الدواء والطب والصحة للبحث عن سُبُل تخفيف الألم عن البشر ومداواتهم وإطالة أعمارهم ما أمكن، وتُنفق هي الأخرى المليارات في سبيل تحقيق هدف الحياة. معادلة قد تبدو غريبة وتعكس معها ثنائية الخير والشر بأبعادها الفلسفية والعقائدية والفكرية، لكنها وبالرغم من غرابتها، فإنها تعكس واقع العالم المعاصر اليوم، بين سلاح يُدمّر ويقتل، وبين دواء يشفي ويعالج، ترجحُ كفة أحدهما في مكان ما، وتهيمن الكفة الأخرى في مكان آخر.
الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان، مقولة شائعة وصادقة جداً، فلا حياة في وطن غير آمن، ولا هناء في سقم البدن، لكن الحصول على الصحة والأمن ليس خياراً مفتوحاً دائماً، فالحروب قدر البشرية منذ فجر الخليقة، والمرض وارد في أي مرحلة عمرية، لذلك تتصدّر صناعة السلاح وصناعة الدواء الهاجس البشري، وكلاهما يسير، أو هكذا يُفتَرَض، وفقاً لمعايير مهنية وأخلاقية، وسواء كان في السلاح أو في الدواء، فإن هنالك أعرافاً دولية ومنظمات حقوقية تراقب وتتابع تصنيع السلعتين، فعلى سبيل المثال بدأ في ديسمبر 2014 نفاذ المعاهدة التاريخية لتجارة الأسلحة، التي تُنظّم التجارة الدولية في الأسلحة التقليدية، من الأسلحة الصغيرة إلى دبابات القتال والطائرات المقاتلة والسفن الحربية، كما توجد اتفاقيات بشأن حظر استحداث وصُنع وتخزين واستخدام الأسلحة الكيميائية، حيث تنشط منظمة حظر الأسلحة الكيميائية من أجل تحقيق موضوع هذه الاتفاقية وتأمين تنفيذ أحكامها. هذا بالإضافة إلى قوانين أخرى تسعى للحد من الأسلحة ومحاصرة تجارة السلاح المتهورة، ومع ذلك فقد استطاع صدام حسين قتل الأبرياء في حلبجة عام 1988 باستخدام السلاح الكيميائي، وتم رش غوطة دمشق بكل أشكال المواد المُشعّة والكيميائية المحظورة، وعانت من قبل فيتنام وغيرها من ويلات القنابل الفسفورية المحظورة، والنابالم الحارق، بل إن جنون السلاح بلغ أقصاه في الأرقام التي تُشير إلى أنه، وفي كل عام، يتم إنتاج 12 مليار رصاصة، أي ما يكفي لقتل كل شخص في العالم مرتين.
في المقابل، يواجه الدواء تُهماً مشابهة، وإن كانت غير مباشرة، فبالرغم من تطوّر العلوم الطبية والعلاجية، فإنها تبقى في دائرة الاتهام من حيث كونها تفتقد عدالة التوزيع والتخصيص، فهنالك على سبيل المثال، قيود غير مُعلَنة على البحث والمصانع الدوائية في العالم العربي، جعل دُوَله خاضعة وتابعة للوبي الدواء العالمي، الذي يتحكّم في الخريطة الصحية العالمية، وفي القرار السياسي، وأزمة كورونا ليست بعيدة هنا للاستشهاد بها. والمفارقة هنا أن تطوّر الدواء قد ضاعف من الخلل الموجود أساساً في ميزان عدالة التوزيع، فتكلفة إنتاج الأدوية المتقدّمة والمتطوّرة ضاعفت من أسعارها وبشكل أدى إلى صعوبة توفيرها للفقراء. لذلك خرجت تشريعات وقوانين في الدول النامية تهدف إلى توفير الأدوية بأسعار رخيصة أو مناسبة، وفتحت الباب لشركات هذه الدول لإنتاج الأدوية غير المحمية ببراءات الاختراع، ومن دون أن تضطر لأن تدفع للشركات التي ابتكرتها، وبالتالي توفيرها للمرضى بأسعار معقولة تتناسب مع مستويات الدخل.
وتبقى ثنائية السم والترياق، أو السلاح والدواء، لتعكس معادلة كونية تحاصر الإنسان منذ بدء الخليقة، بين الخير والشر، بين يد تقتل وتدمّر وتسلب الروح والحق والحياة، وبين يد تداوي وتُطبّب وتشفي وتمسح على الجراح، بين حروب وسلاح يحصد الأرواح ويزرع الألم ويفجر الدماء، وبين مستشفيات وأبحاث وأدوية وعلاجات تعمل على تضميد الجراح، ووقف نزف الدماء، وحفظ الحياة.
معادلة غريبة لكنها حقيقة، نراها كل يوم في غزة وغيرها من مواقع القتال والحروب، حيث تتفوّق قوة السلاح على كل شيء، وفي المقابل تسير مئات قوافل الإغاثة مُحمّلة بالمؤن والأدوية والعلاجات لترميم ما سبّبه السلاح من ألم وسقطة بشعة في المسلك والسلوك البشري. ويبقى في النهاية كلاهما، السلاح والدواء، سلعتين تخضعان لقوانين العرض والطلب، إحداهما شر، والأخرى خير في متلازمة معادلة كونية غريبة.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى