عصر الفوضى

عصر الفوضى
هل أصبح العالم اليوم مُشرفاً على حقبة من الفوضى في كل شيء؟ فوضى سياسية وفوضى أخلاقية وفوضى اجتماعية، وفوضى بيئية. فمن الواضح أن آليات المؤسسات كافة قد فشلت في ردع النزاعات والحروب، وفي تأمين أدنى قدر من الأمن الغذائي والوقودي المستدام، وفي تقنين الانتهاكات والاختراقات البيئية، وبشكل أصبح يهدد الوجود البشري في كل مكان. كل شيء خرج عن السيطرة، ولم تعد في الأفق قيادات أو زعامات قادرة على الخروج من مأزق الفوضى هذا، فالحرب الأوكرانية والتي تصوّر العالم أنها صراع لن يتجاوز الشهر، فإذا بها تستمر وقد شارفت على عامها الثالث، بينما تُهدد حرب الكيان الصهيوني على غزة بالتمدد لتصبح طوفاناً إقليمياً قد يجرف في طريقه العالم كله.
في أكتوبر الماضي، وقبل الحرب على غزة بيومين تقريباً، قال الكاتب الأمريكي توماس فريدمان إن العالم دخل في حقبة سماها: “ما بعد الحرب الباردة”، التي تَعِدُ بقليل من الرخاء والقدرة على التنبؤ في ظل غياب إمكانات جديدة كالتي ميّزت حقبة ما بعد الحرب الباردة وعلى مدى 30 عاماً، منذ سقوط جدار برلين، وأضاف أن هناك من الأسباب ما يدعوه لقول ذلك، لكن ليس منها ما هو أهم مما يقوم به أربعة من قادة العالم الذين يجمع بينهم شيء واحد، وهو أن كلا منهم يظن أن قيادته لا غنى عنها، وإنهم مستعدون لبذل قصارى جهدهم للتشبث بالسلطة قدر استطاعتهم، وأوضح أنه يعني بذلك “بوتين روسيا، وشي جين بينغ الصين، وترامب الولايات المتحدة، ونتانياهو (إسرائيل)”، مشيراً إلى أن سلوك الأخير سيجعل من (إسرائيل) مصدراً رئيسياً لعدم الاستقرار في المنطقة، وحليفاً مشكوكاً فيه.
كنا نتصور أن هَوَس السلطة والتمسّك بالكرسي عادة عربية حصرية، فإذا بنا أمام عالم “متقدم” لا يختلف في تقديسه للسلطة عنا كثيراً، فها هي الولايات المتحدة تستحدث تعديلاً في الدستور يلغي فكرة تقييد فترات القيادة ويمنح بذلك الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت الفرصة ليؤدي اليمين الدستورية ليبدأ ولايته الرابعة عام 1945.
للسلطة بلا شك بريقها الذي قد يُذهِبُ ببعض العقول والأبصار، والتاريخ حافل بحوادث وروايات تشرح سحر السُّلطة وأثرها الذي قد لا يكون حميداً دائماً، ولعل في رواية عزل عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد ما يشير إلى ذلك، وبالرغم من اختلاف الروايات حول حادثة العزل هذه، فإن أقربها ما جاء حول خوف عمر بن الخطاب على خالد بن الوليد من بريق وسطوة السُّلطة، وهو الذي كان يُحقق انتصارات وبطولات، لكنه استقبل أمر العزل من دون اعتراض، حتى قال عمر مقولته الشهيرة “أَمَّرَ خالد نفسه، رحم الله أبا بكر، هو كان أعلم بالرجال مني”.
مرادف السلطة، النظام، وهو ما يُعتَبَر حاجة بشرية لتنظيم شؤون الناس فيما بينهم، لكنها – أي السلطة – حينما تصبح هوساً، فإنها تتحول إلى أداة مدمرة تجرف في طريقها الجميع، شهدنا من هذا الهَوَس نماذجاً في صدام حسين والقذافي وغيرهما، وكنا نحسبه هوساً عربياً خالصاً حتى اشتعلت حرب أوكرانيا، ورأينا كيف فعل هَوَس السلطة ببعض زعامات الدول الغربية “المتقدمة”، وها نحن نتابع هَوَس ترامب القادم وجنون نتانياهو المتشبث بسلطة حاصرتها الدماء، ليتحول العالم بأكمله إلى فوضى لا سراج لها، ويصبح التفوق العسكري الدموي والمدمر أولوية تفوق في أهميتها التحولات الاقتصادية والتنموية الحيوية، وليتفق معها زعماء الفوضى في العالم على انتهاك كل أشكال قواعد اللعبة السياسية في سبيل تأمين وجودهم على رأس السلطة.
العالم، اليوم، إذاً يعيش الفوضى بكل أبعادها وأشكالها، ولم يعد في الأفق بريق يُنذر برؤية راجحة وعقلانية، هي فوضى أصبح يحكمها التفوق العسكري وحده، يدعمه في ذلك أباطرة المال والسلاح الذين أصبحوا، اليوم، في مواجهة بعضهم بعضاً، بعد أن زال هاجس الوحش “الشيوعي” وأصبحت معه الرأسمالية في مواجهة مباشرة مع نفسها، مع كل ما يحمله ذلك من شراسة يديرها المال ويحكمها شره السلطة.
