شئون دولية

المخالب العربية.. والحمل الوديع

المخالب العربية.. والحمل الوديع

حدثتني محدثتي.. وهي سيدة كردية.. عن رأيها في الأسباب التي دفعت بقوات الشرعية الدولية إلى التوقف عند حدود مأساة شعبها.. وعن الدوافع الكامنة وراء امتناع تلك القوات عن تطبيق العدالة الدولية الجديدة فيما يختص بانتهاكات حقوق الإنسان الواقعة على أبناء أمتها. حدثتني بقولها إن القوات الدولية لن تهب لنجدتهم.. خشية أن يقفوا ثانية على أقدامهم.. فمن بين صفوفهم.. خرج صلاح الدين الأيوبي.. قاهر الصليبيين.. ومحرر القدس.
وبالرغم من كل ما يحمله تفسيرها هذا من سذاجة.. إلا أنه أيضاً يحمل في طياته الكثير من الحقائق التاريخية.. والتي يمكننا على ضوئها تفسير أسباب الحملة الدولية على ليبيا.. والمقاطعة الاقتصادية التي قد تطبق بشأنها إذا ما راوغت وامتنعت عن تقديم المتهمين بإسقاط طائرة “البان أم” فوق لوكربي في ديسمبر عام 1988.
وبعيداً عن الحساسية والعاطفة المفرطة والتي أصبحت تكتنفنا من بعد حرب التحرير تجاه كل ما هو قادم من الغرب وخصوصاً من واشنطن.. فلا أتصور أن منا من يختلف بشأن حقيقة حجمنا في نظر الدول الغربية.. أو بشأن أهمية مواردنا بالنسبة لتلك الدول الصناعية.. لذلك فعلى تسليمنا بحقيقة مصلحة الدول الغربية في الهيمنة على مقدرات العالم الثالث عموماً.. والعالم العربي خصوصاً.. يمكننا أن نتصور الأضرار التي سيترتب عليها خروجنا من دائرة مصالح تلك الجولة.. ناهيك عن تمتعنا بأي حركة جادة للنهوض الوطني.
ولا نبالغ إذا ما قلنا بأن الوطن العربي.. ومنذ حركات التحرر في أعقاب الحرب الثانية.. لم يمر بمرحلة من التآلف والترابط التي كانت سائدة قبيل غزو النظام العراقي.. حيث ظهر تكتل دول المغرب العربي.. ومجلس التعاون العربي.. بالإضافة إلى مجلس دول الخليج، وسواء حققت تلك التجمعات أهدافها أم لا.. إلا أنها كانت أول خطوة إيجابية لخلق شيء من التنسيق والتنظيم بين الدول العربية كما أننا لا يمكن أن نتجاهل فترة الثمانينيات.. وما جاءت به من مقاومة للغزو الإسرائيلي للبنان.. وانتفاضة الأرض المحتلة.. إذاً فمما لا شك فيه أن ذلك التعاون.. وحركات النهوض الوطنية تلك.. لو كتب لها الاستمرار.. لكان من الممكن أن تعيق التصور الذي جاء به النظام الدولي الجديد.. والذي تستند إليه الأمم المتحدة في معاقبة ليبيا على جريمة إسقاط الطائرة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحملة الدولية على ليبيا.. ليست الأولى من نوعها.. وإن كانت الأولى منذ غياب القطب الروسي عن ساحة السياسة الدولية.. فقد سبق وأن قصفت الطائرات الأمريكية والتي كانت قد أقلعت من قواعدها في بريطانيا.. قصفت المدن الليبية في بنغازي وطرابلس.. وضربت الموانئ والأماكن السكنية.. بقصد تدمير مصنع الرابطة الليبي في العام 86.. ويومها تفاوتت ردود الفعل على صعيد الأنظمة العربية بين اعتبار العدوان الأمريكي على ليبيا تعبيراً عن مخاطر السياسة الأمريكية على المنطقة.. وبين إدانة وشجب ذلك العدوان.. فاستنكرت يومها الكويت وعدن وسوريا العدوان.. كما أبدت السعودية استياءها، وألغت يومها دولة الإمارات العربية اجتماعات اللجنة المشتركة بين دولة الإمارات وبريطانيا، وبالرغم من أن قرارات الشجب والإدانة في العام 86 لم يختلف تأثيرها كثيراً عن قرار المغرب بالامتناع عن التصويت ضد قرار العقوبات الاقتصادية على ليبيا سنة 92.. إلا أن الموقف العربي الأول.. أي في العام 86 كان يعني أن الدول العربية آنذاك تمتلك الثقة والصلاحية الكافية لإدارة زمام أمورها.. مما أعاد إلى الأذهان ردود الفعل العربية تجاه مؤتمر كمب دايفيد.. والتي قطعت الطريق على بعض المتحمسين لكمب دايفيد.. فلم يجهروا بمفاوضاتهم ولا بعزمهم على التفاوض مع العدو الصهيوني.
وإذا كان للهجوم على ليبيا جذور سابقة.. فإن لإسقاط الطائرات المدنية سوابق كثيرة.. فقد سبق وأن هاجم الطيران الإسرائيلي في عام 73 طائرة مدنية ليبية.. وأسقطها فوق سيناء.. وكذلك أسقطت القوات الأمريكية في الخليج عام 88 طائرة ركاب إيرانية تقل 298 شخصاً.. لقوا جميعاً حتفهم.. تلك الكوارث التي أغفلتها عدالة النظام الدولي الجديد، وبرأت ساحتها القوانين الدولية.. وحينما نتحدث بهذه الصورة.. فإنما نتحدث من واقع نعيشه.. وهذا الواقع تخلقه الأحداث السياسية المتغيرة.. فإنسانية النظام الدولي الجديد.. والتي تطالب بتسليم المتهمين الليبيين ومعاقبة الإرهاب.. تفتقد لذات الشعارات الإنسانية البراقة.. وهي تتعامل مع قصف الطائرات الإسرائيلية للقرى اللبنانية!!
وحين نتحدث عن النظام الدولي الجديد.. فإننا لا نتحدث عن موضوع هامشي وعابر في واقعنا وحياتنا.. فنحن أول إنجازات هذا النظام العملية.. وأول تطبيقاته.. إلا أننا يجب أن لا نغفل هنا الثابت والمتغير من ملامح النظام الدولي الجديد، فالثابت الأول هو رعاية مصالح الدول التي وضعت أسس ذلك النظام.. أما المتغيرات فمهما كان شأنها فهي لن تزيد عن كونها متغيرات نسبية أو مرحلية.. وما تحليل السيدة الكردية والذي أوردته في بداية حديثي عن سبب توقف النظام الدولي عن مواصلة قمع الإرهاب.. وقتل المدنيين.. سوى واحد من تلك المتغيرات الكثيرة والتي لن تخلق بأي حال من الأحوال اتجاهاً حقيقياً وثابتاً في سبيل تحسين أوضاع تلك الشعوب المعنية..
إن ذريعة مكافحة الإرهاب.. ومعاقبة الإرهابيين.. وخاصة في منطقة الشرق الأوسط.. والتي استند إليها المجتمع الدولي في إدانته لليبيا.. تعد ذريعة واهية وسط الإرهاب الممارس من قبل النظام الصهيوني بقصد تأمين الحدود.. والدفاع عن النفس!!
أما إذا كان القصد من الحملة على ليبيا.. محاكمة “نورييغا” آخر أقضَّى مضجع دعاة العدالة الدولية.. فلا يحق بأي حال من الأحوال أن يدفع الشعب الليبي الثمن من أمنه واستقراره إلا إذا كانت ذريعة معاقبة الإرهابيين هي خطوة أولى فقط نحو ترويض الشعوب العربية.
يبقى إذاً التصور المستقبلي الوحيد الوارد للعلاقة بين العرب والعالم.. وخاصة في ظل ظهور ما يطلق عليه النظام الدولي الجديد.. ذلك التصور الذي لا بد وأن يشهد المزيد من تقليم المخالب العربية.. كي يأمن الحمل الوديع.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى