رثائيات

البحث عن الحقيقة في رثاء راحل لم يرحل

البحث عن الحقيقة في رثاء راحل لم يرحل

منذ البدايات الأولى للتاريخ الموثق والإنسان يبحث جاهداً عن حقيقته وعن حقيقة الواقع المادي خارج ذاته. وقد تعددت وسائل الإنسان في هذا البحث المضني. فبينما اعتقد فلاسفة اليونان القدماء أن أسرار الوجود والحقائق المطلقة النهائية يمكن الوصول إليها عبر منهج الفكر المجرد، فإن العلماء في عصرنا الحالي يعتبرون التجربة العملية المنهج الوحيد المقبول للوصول إلى حقائق تكون دائماً نسبية ومؤقتة وقابلة للتغيير!! وفي مقابل ذلك تبقى الحقائق المطلقة حكراً على الفكر الدوغماتي القائم على أيديولوجيا تحدد يقيناً معيناً وتطلب التسليم به، ومن ثم فإن القبول بهذه الحقائق هو نتاج قرار ذاتي يتخذه الفرد، وبالطبع هناك عوامل كثيرة خارجية تساعد على بلورة مثل هذا القرار!!
ولكن لماذا هذا البحث الدائب من قبل الإنسان بينما الكائنات الحية الأخرى على وجه الأرض حسمت مسارها؟! هل هذا البحث مصدر شقاء أم سعادة للإنسان؟ وهل السعادة والشقاء مفهومان واضحان؟! وهل يمكن الانطلاق من تعريف محدد للسعادة ومن ثم السعي إليها؟ أم أننا منذ البداية نبحث عن هذا التعريف كخطوة أولى من بحثنا المضني؟ وهل مصير الإنسان أن يقضي مرحلة وجوده في هذا الكون باحثاً عن المعاني بدلاً من أن يعيش هذا الوجود؟!
تلك كانت سطور من كتاب خالي العزيز الراحل “الدكتور عبدالله حمد المعجل”. لم أجد أفضل من أن استعرض كتابه الأخير كمدخل لرثائه، رثاء يليق بمرتبته العلمية، وينطلق من أولوياته في طلب العلم والمعرفة.
الذين عرفوا الدكتور عبدالله الحمد المعجل لا يمكن لهم أن يتخيلوا أن ذلك العقل قد استراح من هاجس البحث في حقائق الكون والبشر، ولا أن يتصوروا بأن جسده قد أخلد إلى سكون الموت وانقطع بذلك إلحاحه وشغفه بالمعرفة والعلم.
لذا فقد وجدوا كما وجدنا في كتابه الأخير ملاذاً يقيناً بعض الشيء من هول فراقه ويربطنا ولو إلى حين بفكره وحواره وعلمه.
“البحث عن الحقيقة: الوعي البشري وحقائق الكون”، كان آخر كتبه. وهو كتاب يترجم وبكل دقة مكنون رؤاه وآرائه. ولعلّ من السخرية أن يختم حدسه بهذا الكتاب وهو الذي عاش مدركاً خاصية العلم المتحولة دائماً والمتحركة أبداً. فالحقيقة الوحيدة في العلم هي التغيير والحركة. أما السكون والثبات فهما مقبرة العلم ومحرقته.
في كتابه هذا يتحرى الدكتور عبدالله المعجل أسلوب المنهج العلمي في الوصول إلى قناعات نسبية ومرحلية. ثم ينطلق مبحراً فينا إلى حقائق العلم كما أبرزها منهج الفيزياء ثم إلى لغة العلم – أي الرياضيات – ومناهج الاشتقاق. كما يتناول في كتابه علم الحياة وصولاً إلى مفهوم الوعي وتميز الإنسان. وأيضاً يشير إلى المحاولات التي جرت عبر التاريخ لتحويل دراسة المجتمع إلى علم يخضع لمعايير المنهج العلمي.
يركز الدكتورعبدالله المعجل في كتابه على مسيرة العلم عبر المحاور الرئيسية في الفيزياء والأحياء والاجتماع.. ويتناول مصادر المعرفة الأخرى التي تراكمت عبر تجارب التاريخ وكيفية تنقيحها بتسليط منهج العلم عليها.
كتاب قيّم حقاً. وقيمته الأولى تكمن في كونه من الكتب اليتيمة التي صدرت باللغة العربية حول حركة العلوم وعلاقتها بالوعي البشري بشكل عام. أما القيمة الثانية فهي في كونه يشكل آخر ومضات خالي الراحل الدكتور عبدالله الحمد المعجل وآخر أنفاسه والتي ستخلده في هذه الدنيا الفانية رجلاً تَعَلُّم وَعِلْم وَخَلَّفَ عِلْمًا يَنْتَفِعُ بِهِ.
عزائي أيها الخال العزيز أنك باق في مؤلفاتك وفكرك وكتبك. وسلوتي عنك في حديث الآخرين عنك وعرفانهم لبصماتك التي خلفتها في دور العلم ومؤسسات الصناعة على امتداد الشريط الخليجي وخارجه. ويبقى ملاذي الأول حين تحرقني نار الشوق إليك أن ألجأ إلى ردهات مؤلفاتك واستدعي حواراتك معي.. استرجعها نقطة نقطة لأطفئ بها لوعة تكاد تذهب أحياناً بسكينة عقلي واتزان نفسي، استدعيها كلها لأعيش معك من خلالها كما لو كنت حياً ترزق. بل أنت حي بما خلفت وراءك من علم وعمل فأنت الراحل الذي لم يرحل. وإنما تراجع إلى بُعد آخر من أبعاد الكون التي كثيراً ما تجادلنا حول احتمالاتها وفق ما استعرضته نظرية الأوتار والتي اختلفنا حولها كتفسير خيالي للكون وأسراره!! وكم ستبقى مثل تلك الحوارات والجدل الذي كثيراً ما تنازعنا حوله. سلواي وملاذي في رجل عاش عالماً ومات مُعلماً!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى