إحياء الأنثى بداخلنا

إحياء الأنثى بداخلنا
ينظر إلى ثقافة أي مجتمع.. على كونها حصيلة النتاج الفكري والروحي والفني والأدبي.. لهذا المجتمع أو ذاك.. والثقافة كما جاء تعريفها في القواميس السياسية هي: “ثمرة المعايشة للحياة والتمرس فيها والتفاعل مع تجاربها ومراحلها. تتمثل في نظرة عامة إلى الوجود والحياة والإنسان وفي موقف منها كلها.. وقد يتجسد هذا الموقف في عقيدة شاملة.. أو مذهب فكري.. أو مسلك أخلاقي.. أو تعبير فني.. أو عمل أدبي”.
إذاً.. وانطلاقاً من ذلك التفسير.. فإن أي نتاج ثقافي إنما يرمي إلى الارتقاء بالمجتمع من حالة أدنى إلى حالة أعلى وأفضل.. وذلك من خلال الارتقاء بمستوى الأداء الثقافي.. فكرياً كان أم روحياً..
تلك كانت مقدمة.. وكان لا بد من البدء بها.. قبل أن نحاول التعرف على الأسباب التي دفعت وتدفع بالبعض إلى التقليل من شأن العطاء الفني والأدبي.. سواء عن طريق انتقاد ونبذ العمل المسرحي.. بكونه أداة لإلهاء المواطن.. فهو فكر (علماني) لا يتفق ومعتقداتنا الإسلامية.. أو سواء جاء ذلك الاعتراض على الفن والأدب من خلال حرق أشرطة الأغاني.. وإنكار الموسيقى والغناء.. باعتبارها أساليب شيطانية لإثارة الغرائز.
قد نتفق مع الأخوة المعترضين.. على حقيقة تدني مستوى الغناء.. وعلى ضحالة الأداء المسرحي حالياً.. ولكن ذلك لا يعني أن ننبذ المسرح والغناء.. فالأدب والفن كما التعليم هي أساس البناء الفكري لأي مجتمع.. ومن خلال تلك الفنون.. وعلى خشبات المسارح.. يتجسد النقد الذاتي للمجتمع.. والذي هو الأساس في عمليات الإصلاح والتغيير ليصبح في متناول الجميع.. لذلك فجدير بمن يحاربون الآن الفن والمسرح.. أن يتوجهوا بجهودهم تلك.. إلى محاولة إصلاح ذلك الجانب من ثقافة الوطن.. والارتقاء به.. وتطوير أدائه.. لا نفيه وإنكاره.
لقد كنت أصغي إلى تلك الأصوات المنادية بوأد الحركة المسرحية من حياتنا وخنق ملكة الفن.. وإخماد صوت الغناء.. كنت أستمع إلى كل ذلك.. وأنا أطالع في كتاب عن حضارة الإسلام “مهرجان الفن الإسلامي”.. كتاب يسرد مستعيناً بالصور والرسوم.. الحضارة الإسلامية.. بفنها وأدبها.. برسمها وشعرها وغنائها. وقد لا يخفى على أحد منا.. أن تلك الحضارة التي ميزت الأمة الإسلامية في تلك الحقبة من الزمن.. هي حضارة قامت وازدهرت بفضل جهود المسلمين آنذاك في ترجمة ميراث الثقافة اليونانية والرومانية.. والتي كان للمسرح والفنون دور ريادي وأثر بارز في كل منهما.
لقد حاول الكثير من الكتاب والمفكرين العرب.. طرح الأسباب التي أدت إلى ذلك البتر والفصل الكبير.. بين ما كان من حال العرب في ذلك الحين من تقدم وحضارة وفن وفكر.. وبين ما آل إليه واقعهم الآن.. من فقر وجهل وتخلف.. وقد كان من ضمن الأسباب التي طرحت.. إن ردة الفعل العربية تجاه التطور والتقدم الذي بدا يدب في الغرب من بعد الثورة الصناعية التي تفجرت في إنكلترا.. والتي تمخضت عن اكتشافات علمية كالمحرك البخاري.. إن ردة الفعل تلك كانت غاضبة وساخطة من جانب العرب الذين تنازلوا عن مكان الصدارة التاريخية.. تحت ظل السيطرة العثمانية التي كانت تعيش تخلف العصور الوسطى وفسادها ومظالمها.. وأن درجة الغضب والسخط تلك، كانت من القوة والعنف، أن جعلتهم يقتلون الجانب الأنثوي في حياتهم محملينه بذلك وزر ما أصابهم من تخلف وجهل وتأخر.
والجانب الأنثوي.. هو الجانب الفني والإبداعي.. للإنسان.. في مقابل جانبه المادي.. هو قدرته على التخيل والتفكير والإبداع.. والتي لا تقل أهمية عن أي جانب آخر منه؛ فعلى خشبات المسارح تجسدت أروع الأمثلة الاجتماعية.. وطرحت أهم قضايا المجتمع، ومن خلال الموسيقى والغناء.. بقيت بصمات العرب نابضة حية في قلب التراث الأسباني.. ومن خلال الرسومات والتصاوير العربية.. تجسدت وتخلدت الحضارة العربية والإسلامية.
فعلى الرغم من ذلك الامتداد التاريخي للعرب.. إلا أن سنوات القحط والتخلف التي عانى منها العرب تحت السيطرة العثمانية.. خيلت للكثير أن سباق الحضارة الذي ينتظرهم في خروج المرأة.. سبباً رئيسياً لتفسخ المجتمع وانحلاله.. فإن الكثير كذلك أصبح يرى في الجانب الفني والأدبي الإبداعي للمجتمع مضيعة للوقت وإهداراً للجهد.
لقد ابتعدنا كثيراً حيث كان فجر “النهضة العربية”.. وأصبح الطريق معبأ بالحواجز.. وتراكمت الخزعبلات والأفكار الضيقة المحدودة الامتداد والبعد.. فإذا ما كنا حقاً مخلصين في إحياء تلك النهضة التي كانت فالطريق بالتأكيد ليس التغني بها.. وسرد أسبابها وحسب.. فذلك لن يجدي إطلاقاً نحن بالتأكيد في حاجة إلى إحياء الأنثى بداخلنا.. والتأكيد على أهمية الجانب الأنثوي من حضارة البشر.. وليس بأكثر من دليل على ذلك.. إن حضارات البشرية كلها لم يخلدها.. ولم يبق عليها.. سوى الأنثى الكامنة في جوفنا جميعاً
