الأدب والثقافة والفنقضايا الوطن

الغربة الأولى

الغربة الأولى

يأتي الأدب كمرآة صادقة تعكس المجتمع بأفراده وطقوسه ومشاعره، وهو أيضاً أداة حفظ للتاريخ بأحداثه وبحركته، وتأتي الرواية كأبرز منافذ الأدب وأهمها في التعريف بالمجتمع وأشخاصه ورموزه وملامحه.
أما الأديب فهو الشاهد الذي يدون شهادة عصره وأمته، ولا يراقبه في ذلك سوى عقله وضميره، وبقدر ما يكون امتداده راسخاً في أمته ومتجذراً في أرضه ووطنه، بقدر ما تكون صورة حقيقية وصادقة وناطقة بكل ما عبر عنه ذلك العصر وما نطقت به تلك الأمة.
أدب الرواية لا يزال طفلاً في منطقة الخليج، ليس بسبب ندرة الرواة والأدباء وإنما لأسباب سياسية واجتماعية في أغلبها، جعلت الحديث بحرية وبعفوية وصدق أمراً صعباً بل ومستحيلاً في أحيان كثيرة.
إلا أنه، وعلى الرغم من كل تلك المعوقات، فقد بدأ الأدب الخليجي يبرز في الآونة الأخيرة وأصبح معه الإطلال على الروح والبيئة الخليجية مباحاً ويسيراً، فخرجت أقلام كثيرة تروي الشأن الخليجي بصدق وبصراحةِ وتخرج بالقضايا والشؤون الخليجية الصغيرة والداخلية إلى فسحة المحيط العربي الواسعة والشاسعة، ومن هذه الأعمال رواية صدرت مؤخراً للدكتور عبدالله حمد المعجل عنوانها يلخص مغزاها وحبكتها.
“الغربة الأولى” رواية تنطلق أحداثها من قلب قرية صغيرة في قلب المجتمع الخليجي، لم يسمها الكاتب لأن تفاصيل الحياة فيها هي من تفاصيل أي قرية أخرى وأي مدينة في خليجنا الممتد والمترامي بأطرافه شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً.
لقد امتدت الرواية زمنياً لتستعرض أحداثها مرحلة من أهم المراحل التي عبرت بها منطقة الخليج، حيث تبدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وقبل أن يتدفق النفط من باطن الأرض الخليجية، ويفجر مع تفجره نمط الحياة السائدة آنذاك وشكلها ولتبدأ معه غربة قاسية عبر عنها أبو محمد، إحدى شخصيات الرواية الرئيسية، وبلغ إحساسه بها وتعبيره عنها قمتهما من خلال الحوار الذي يدور بينه وبين خلف، معتوه القرية وحكيمها في آن واحد.
رواية الدكتور عبدالله المعجل، شأنها شأن أغلب الروايات الخليجية، تتناول دائماً إحساس الغربة القاسي الذي سببه ذلك التحول الهائل في المجتمع بفعل القفزة المالية التي أحدثها ظهور النفط وما أعقبه من تحولات لامست كل شأن من شؤون الحياة في منطقة الخليج، وبذلك فهي تتناول الجانب السلبي من النفط كثروة وكعامل رئيسي في التغيير الذي ألم بالمنطقة وعصف بكل ما بحوزة أهلها من موروثات ومن ثوابت، وبسرعة زمنية قياسية أحرقت في لهفتها مراحل رئيسية وهامة في مشوار التحول والتغيير، ولا نزال جميعاً كدول خليجية نعاني من أزمات ومشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية خلفتها تلك الخطوات والتحولات اللاهثة.
قضية الاغتراب التي يعاني منها المجتمع الخليجي هي قضية هامة وغنية جداً بالتفاصيل التي قد تستوعب روايات كثيرة لطرحها ومعالجتها من أوجه مختلفة ومتباينة، ونظراً لحساسية تلك القضية وانعكاساتها على المجتمع والفرد، فقد تطرق لها كل الكتاب الخليجيين بوجهات نظر مختلفة.
في حوار جانبي دار بيني وبين إحدى الأديبات اللبنانيات حول رواية “الغربة الأولى”، استغربت تلك اللهفة العربية لرؤية البيت الخليجي عن قرب، وذلك من خلال ما يمكن أن توفره الرواية من نوافذ مفتوحة على الشأن الخليجي بصورة تفوق في مقدرتها ودقتها كل صور اللقاءات الأخرى التي قد تنشأ بين الخليجي وأقرانه من العرب، وهو أمر يجعلنا نقر بأن رواية الدكتور عبدالله المعجل، كما غيرها من الروايات الخليجية، تشكل جسوراً ممتدة تصلنا بالآخرين، وبما مضى من الزمن والتجارب.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى