الأدب والثقافة والفنقضايا الوطن

متابعة نقدية تفتقد إلى الحقيقة

[نشر التقرير في إحدى الدوريات الأجنبية وقد ترجمته للعربية سعاد المعجل ونشر في القبس الثقافي بتاريخ 18/8/1994.]

متابعة نقدية تفتقد إلى الحقيقة

مهرجان الفن الانطباعي في باريس
الفن الانطباعي أو الـ Impressionism جاءت هذه التسمية من إحدى لوحات الفنان الانطباعي “مانيه” صاحب أشهر وأغلى اللوحات، وقد كانت التسمية بقصد السخرية في البداية والاستهزاء بفن يقوم على انطباع فنان ما تجاه العالم من حوله!!
وحيث كان الكثيرون يعتبرونه فناً وأسلوباً في التعبير لن يستطيع الصمود طويلاً، ولا بد وأن يصبح تاريخاً منسياً في عالم الفن!!
ومن وجهة نظر المنظمين لمهرجان “أصل الفن الانطباعي” في باريس لم تكن الصورة كذلك بل يرون في تاريخ هذه الحركة ظاهرة فنية تستحق التقدير والاهتمام.
ويسعى هذا المهرجان إلى تحدي المنتقدين للفن والحركة الانطباعية حيث يسعى منظمو المهرجان إلى تكذيب ما ترمز إليه التسمية على الرغم من أن هناك شيئاً من التناقض فهم يسعون إلى التأكيد على أن الفن الانطباعي لم يكن أبداً قائماً، وأنه إذا ما كان بالفعل هناك فن كهذا، فإن الخطأ في التسمية لا شك واضح!
التساؤل
إن تقصي تاريخ ونشأة الحركات الفنية يعتبر مادة مغرية لمؤرخي الحركات الفنية، على الرغم من أن معظم جهودهم غير مثمرة، وإن لم تكن فاشلة في أغلبها، فمن الصعب القول أن أول الفنانين الانطباعيين هو الإنكليزي “جون كونستابل” John Constable كما تنطبق حالة الجدل ذاتها على الفنان “تيرنر” Turner فذلك أمر يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب وقوفنا عند أحد هؤلاء وما الذي يمنع من اعتبار “ريمبراندت” و”تيتيان” على سبيل المثال، جزءاً من الحركة الانطباعية.
لذلك فإن القول بتحديد العام 1859 كتاريخ للحركة، يعتبر تحديداً عشوائياً على الرغم من أنه التاريخ الذي استقر عليه رأي المنظمين لمهرجان Grand Palais في باريس.
يفتتح المعرض في الـ Grand Palais بعرض مكثف يمتلئ بعبق وروح الفن الانطباعي من الأعمال تصدرت صالونات الفن في العام 1859 في باريس ومنها مجموعة لأعمال يتفق عليها رواد الفن الانطباعي آنذاك، مثل لوحة “بوجورية” التي تصور مجموعة من النساء الصغيرات يبكين بينما هم يضعون أكاليل فوق أحد القبور.
ويعود سبب ذلك لأن الفن المأساوي الحزين كان له مكانة بارزة في منتصف القرن التاسع عشر حين كانت إثارة المشاعر الوجدانية من خلال الرسم طاغية وسائدة.
ويمكن اعتبار أحد أعمال “جان ليون جيروم” مثيرة للحزن حيث صور امرأة تتعرى من ملابسها بطريقة بدت كلاسيكية جداً.
قد لا يكون ذلك كله حقيقة الفن الانطباعي إلا أنه ولا شك ما يراه “أندرو غراهام ديكسون” في تعليقه على مهرجان الـ Grand Palais وذلك من خلال مقاله المنشور في “الأندبندنت”.
ديكسون يرى أن الصراحة المطلقة في الفن أمر غير مستحب وأن الابتعاد عن الواقع هو ما يعطي الفن قيمته وأحاسيسه الفريدة.
ويشير ديكسون إلى أن “مانيه” ومن بعده “ديجا” وهما من رواد الفن الانطباعي يسمون الأشياء بأسمائها، وعندما يرسمون امرأة عارية فإنهم بالفعل يرسمون امرأة عارية حقيقية!! وهذا الأمر ما ينتقده “ديكسون” في هذا النوع من الرسم وعلى سبيل المثال، فقد شوه “مانيه” رائعة “جيروم” التي صور فيها امرأة عاشقة تعيش جواً رومانسياً خلابا، حينما رسم “امرأته العاشقة” في لوحته “أولومبيا” Olympia إذ بدت قاسية الملامح بأنفها المدبب، وكانت أقرب إلى المرأة العاملة منها للعاشقة.
بالنسبة لـ “ديكسون” فإنه اعتبر أن مستوى الفن الانطباعي وقيمته.. تكمن في بساطته المذهلة خاصة وأنه خرج عن النظام والعرف الفني، محاولاً تجسيد الحقيقة كما هي، وهو بحد ذاته أمر غير فني، وسيبقى فنانو العام 1860 والأعوام التي تلته مطاردين بلعنة الأخلاق الفنية التي هم بصدد تشويهها!!
مانيه وسيزان وديجا
يعرض المهرجان أعمالاً لـ “مانيه” MANET و”سيزان” CEZANNE وكذلك لـ “ديجا” DEGAS علماً أن أعمالهم كانت تعتبر ظواهر فنية شاذة وغريبة. وهذا الأمر ينطبق بشدة على أحد أشهر أعمال “ديجا” إذ صور معركة تعود إلى القرون الوسطى تتداخل في تفاصيلها صور لعراة، أما أعمال “سيزان” فلم تكن تختلف كثيراً عن زميله “ديجا” حيث يصور “سيزان” في إحدى لوحاته مجموعة من الأشخاص بأجساد بدينة منفرة، يسبحون في نهر أضاءت جوانبه أضواء بدت كأنها البرق في عتمة الليل.
وعلى الرغم من أن لوحات كهذه، قد لا تكون مثالاً لكل ما بحوزة هؤلاء الفنانين من مقدرة وإبداع وقد لا تكون مقرونة قط بأسلوب إلاأنها تبرز الجانب القلق في فنهم وصورة اتصالهم بما سبق من فن بالإضافة إلى أنها تضفي وضوحاً أكثر لطبيعة فنهم المستقبلي قد تكون لوحة “مانيه” “أولمبيا” جاءت كتكرار غير مقصود لعراة الفنان “جيروم” أو “كابانيل” ولكن ممكن أن تكون إعادة للوحة تيتيان VENUS OF URBINO.
كما من الممكن أن تكون لوحة “سيزان” للسابحين في النهر صورة أخرى للوحة بوسان المسماة BACCHACCANALES كذلك بالإمكان، اعتبار لوحة ديجا DEGAS التي صور فيها خيول السباق، وفرسانهم في سانت كلود لوحة حديثة وإن جاءت بروح كلاسيكية!!
الأسلوب
يبدو أن الأسلوب الذي تم فيه تنظيم مهرجان الفن الانطباعي قد أثار “ديكسون” حيث يشك في أسباب التنظيم.. الذي صنف اللوحات بناء على مواضيعهم وعناوينهم وليس على أساس أسماء الفنانين ذاتهم، وبحيث جاء قسم العراة وقسم الطبيعة الصامتة وقسم المعالم الطبيعية، و”رسوم البحر” مما جعل ديكسون يعتبر ذلك التصنيف غير عملي فكيف سيتم تصنيف لوحة “مانيه” DE-JEUNR SUR L’HERBE علماً أن تفاصيل هذه اللوحة، تعتبر خليطاً فلا هي بالرسم الوصفي، ولا هي بالرسم التضاريسي ولا هي رسم عاري، وإنما مزيج من الصفات الثلاث، وهو ما ينطبق كذلك على رسم ديجا في FEMME AUX CHRYSANTHEMES والذي بدا أنه حائر بين تصنيفين بين “الطبيعة الصامتة” وبين البورتريه إذ احتلت الزهور مساحة شاسعة من اللوحة وبدا في طرفها وجه لإمرأة هامشية وسط ذلك الحشد من الأزهار، وكأنما يريد ديجا أن يقول أن الطبيعة ذاتها لا تخلو من الغريب والشذوذ.
شيء غريب
مع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، شهد عالم الفن والرسم تحولاً لافتاً. تحول لا يمكن الحديث عنه ببساطة كما نتحدث عن قِدم الفن الانطباعي، لأنه يمثل أحد أرقى وأدق التغيرات في طبيعة الفهم الإنساني؛ فقد تغيّرت الرؤية والانطباعات البشرية، واتضح أن الأسلوب الأكاديمي في الفن لم يعد ملائماً للتحديات والقضايا التي بدأت تواجه الأجيال الجديدة من الفنانين والرسامين الشباب. كان ذلك من خلال ما يمكن تسميته بأسلوب الانهيار الاجتماعي، أو لنقل: عبر التحول التدريجي في الرؤية.
فقد بدأ كلود مونيه، بين عامي 1860 و1870، في استخدام الطبيعة كحجة لعرض خيالاته وتصوراته، بينما لجأ سيزان إلى “الطبيعة الصامتة” ليواجه عبرها مشاكله العاطفية؛ فبدت كل سكين وتفاحة في لوحاته كأنها تحمل إيحاءً بما يتهدد حياته من قلق ومشكلات.
ويبدو أن “ديكسون” قد أحس بأنه قد بالغ في نقد فنانين لقوا من الإعجاب وما زالوا الكثير ومن التقدير ما يراه الكثيرون أنهم يستحقونه!!
فبدأ في نهاية حديثه.. بمدح أحد الفنانين الانطباعيين..!! ورأى أن مانيه هو بطل المهرجان بلا منافس!! أو هو كما يراه “ديكسون” ليس انطباعياً كالآخرين!! فأغلب مواضيع “مانيه” ترتكز على فصل العلاقة ونفي الارتباط بين الجماد والإنسان.
أحسَّ مانيه بخلو الحياة من أي معنى قبل أي من الفنانين الفرنسيين الشباب، فمن بعد “مانيه” لم يعد هناك فن يصور الطبيعة ولا البورتريه ولا حتى الطبيعة الصامتة وإنما هنالك لوحات فقط من أعمال “سيزان” “فان جوخ” و”بيكاسو”!! لذا من الأفضل أن يكون المهرجان في الـ GRAND PALAIS مهرجاناً عن أصل الفن الحديث، وليس عن أصل الفن الانطباعي.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى