حرب الزهور

حرب الزهور
غالباً ما يفرط الفنان في خياله وتصوراته، وذلك حينما يجسد تفاصيل الحياة الواقعية، وسواء كان رسماً أم نحتاً أم شعراً أو غناء، فإن الفن في كل تلك الحالات معفي تماماً من قواعد اللغة والشكل والمكان والزمان.
بانة عبدالرحمن فنانة كويتية مبدعة لجأت إلى ريشتها، وألوانها في محاولة منها لفهم واستيعاب ما دار في لبنان، وعلى مدى ثلاثة وثلاثين يوماً قاسية ومضنية، فأبدعت ريشتها سلسلة من اللوحات بدت فيها الأزهار باكية ودامية، أزهار بيضاء يافعة كبياض الصغار الذين لم ترحمهم آلة العنف الإسرائيلية، فمزقتهم أشلاء، وانتهكت دماءهم المحرمة والبريئة، وأحالت عالم البراءة إلى عالم تقتحمه الدماء، وتحيل ألوانه المليئة بالفرح والبهجة إلى ألوان الدم القاتمة والمثقلة بالكراهية والعنف. معروف عن بانة عبدالرحمن أن ريشتها تتفاعل وبصورة كبيرة مع الأحداث السياسية، وأن ألوانها دائماً ما تكون مزيجاً من الواقع الممهور بخيال الفنان وشطحاته الإبداعية، لذلك فهي تحتفظ بأهم محطات التاريخ السياسي العربي داخل إطار كل لوحة، من لوحات تحكي مأساة العرب الكبرى في فلسطين، وأخرى تنزف دماً مع كل نزف للجرح العربي المهزوم في كل حرب خاضها، منها ما دونت به بانة عبدالرحمن حجم المأساة المتمثلة في غزو النظام العراقي للكويت، ومنها ما سجلت به معاناة الطفل العربي في خضم التخبط وحالة الهذيان السياسي التي سادت المجتمع العربي، إلى أكثر من خمسة عقود.
خطوط الفنان هي بلا شك أصدق تعبيراً من كل الحروف والكلمات، وهي غالباً ما تكون خطوطاً تعبيرية تختزل كما هائلاً من المشاعر والأحاسيس، قد لا تجيد المفردات مهما بلغ حجمها، تلخيصها أو التعبير عنها بصدق، ولعل تاريخ الفن القديم منه والحديث زاخر بأمثلة لفنانين جسدوا بأعمالهم ولوحاتهم مراحل تاريخية، وأحداثاً مهمة بقيت تفاصيلها مدونة وراسخة في ذهن المتأمل في تلك اللوحات والأعمال، مأساة الطفل اللبناني، وجرحه الدامي إثر العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، جسدته ريشة الفنانة بانة عبدالرحمن بصورة رمزية اختزلت فيها كل تفاصيل هذه المأساة، زهور بيضاء، انحنت براعمها حتى كادت تلامس أفرعها، تنزف دما أحمر قانياً أحال بياض اللوحة إلى ما يشبه الرتوش الداكنة، على الرغم من بشاعة الحرب الأخيرة على لبنان الشقيق، وبالرغم من كل ملامح الدمار والحريق، والرماد، لكنها بقيت الأكثر بشاعة بسبب تلك الأشلاء الفتية والبريئة والتي كانت تُنتَزع نزعاً من تحت أطلال الدمار والعنف الإسرائيلي الهمجي، لقد كانت الحرب حرباً على الطفولة والبراءة والطهارة، سقط فيها الرضيع قبل الجندي، ودمرت المنازل والمستشفيات والملاجئ، قبل الثكنات والترسانات العسكرية.
حرب لبنان الأخيرة، كانت حرباً ضد الزهور، وتلك هي الخلاصة التي أرادت الفنانة بانة عبدالرحمن أن نفهمها، وأن نعيها جيداً، فالزهور لا تشكو، لكنها تموت، تماماً كما هو الحال مع الضحايا من أطفال لبنان.
