الأدب والثقافة والفنقضايا الوطن

طائر النورس

طائر النورس

كنت ولا أزال مولعة بالقصص ذات المغزى! البعض يسميها أساطير، والبعض الآخر يطلق عليها خرافات، بينما يرى فيها آخرون قصصاً مسلية تحوي رمزاً يختبئ داخل أحداثها وتفاصيلها!
الكاتب البريطاني ريتشارد باخ كتب قصة قصيرة ذات مغزى في عام 1972، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات منذ إصدارها، فإن طباعتها لاتزال تتجدد كل عام، حتى لقد اعتبرها البعض أشهر قصص المغزى في زمننا الحاضر!
القصة بعنوان “طائر النورس: جوناثان ليفنجستون”، وهي تحكي قصة طائر عاش ضمن مجموعة من طيور النورس، والمعروف عن هذا النوع من الطيور، أنه لا يحلق على ارتفاع عالٍ وإنما يلامس سطح الماء، ويقتات على الأسماك وبعض فضلات المراكب والسفن! لكن الطائر جوناثان ليفنجستون كان رافضاً أن يقر ويستسلم لحدوده البيولوجية، فقرر أن يمارس الطيران عالياً ويخترق القدرات المعهودة، لهذا النوع من الطيور! “جوناثان” أراد أن يمارس الطيران بهدف التعلم وليس بهدف البحث عن الطعام فقط!
ولأن مجموعته تكره التمرد على تقاليدها، شأنها في ذلك شأن أي مجموعة تشترك في سمات بيولوجية واحدة، فقد حكمت عليه بالنفي، فاضطر إلى أن يغادر مجموعته، لكنه لم ينقطع عن التعلم والغوص في أسرار الطيران دون أي حذر أو خوف! وبالفعل فقد استطاع أن يحقق قفزات هائلة في طيرانه أذهلت طيور النورس، فعقدوا اجتماعاً ليقرروا كيفية التعامل مع هكذا متمرد خرج عن المألوف والمعهود في عالم النوارس، فكان أن وصموه بالخزي والعار لتهوره وخروجه عن تقاليد النوارس!
خرج “جوناثان” عن المجموعة، وأصبح وحيداً منبوذاً، لكنه كان مدركاً أنه على حق، وأنه كان يسعى لتطوير قدرته في التحليق إلى أبعد من المألوف، وأن يتعلم أموراً أخرى لكي لا يقتصر دوره في الحياة على البحث عن الطعام فقط!
يلتقي “جوناثان” فيما بعد، وفي عالم اخترقه فقط المتميزون، بأحد طيور النورس المتطورة جداً في قدراتها، ويتعلم منه الكثير حول فنون الطيران ومهاراته، لكنه يتعلم شيئاً آخر في غاية الأهمية، يتعلم أن الكمال مخزون يجهل الكثير السبيل إليه، وأن كل طيور النورس تستطيع أن تحقق سرعة طيران وقدرات خارقة إذا ما أدركت ذلك المخزون وتحررت من المعوقات والحدود، التي لا مجال لها في أرض الواقع، وإنما هي بفعل العقل المكبل بالقيود الوهمية! ويتعلم “جوناثان” أن تحقيق أقصى سرعة في الطيران تكون حين تدرك أنك بالفعل قد حققتها! ليتحرر العقل بذلك من قيود الزمان والمكان التي هي أساساً من صنع العقل ولا علاقة لها بالحقيقة!
في نهاية القصة يحقق “جوناثان” طموحه ويصبح بكفاءة معلمه، فيقرر أن يعود إلى مجموعته ليتبنى نوارس تطمح لاختراق المألوف والتحرر من القيود والحدود!
نصادف – ولاشك – أكثر من “جوناثان” في حياتنا كبشر! أفراداً تمردوا على المألوف، يحاولون التحرر من القيود سواء جسمانية أم عقلية! وهؤلاء حتماً وجدوا أنفسهم منبوذين من جماعاتهم! لأن الخروج عن المألوف يتطلب شجاعة وإقداماً، لكنه في نهاية الأمر يستحق العناء والمشقة!
فكل المبدعين بدأوا رحلة إبداعهم برفض القيود التي غالباً ما تحد من القدرات الهائلة المخزونة في النفس البشرية! وهؤلاء قطعاً هوجموا وحوربوا في البداية، لكنهم حققوا النصر الذي ستدركه جماعاتهم يوماً ما!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى