قضايا اجتماعيةقضايا الوطن

جدلية الشكل الديني في صورة الإنسان

[نشر التقرير في إحدى الدوريات الأجنبية وقد ترجمته للعربية سعاد المعجل ونشر في القبس الثقافي بتاريخ 2/6/1994.]

جدلية الشكل الديني في صورة الإنسان

على مر التاريخ.. وعبر كل العصور التي شهدت أحداثاً، وتطورات لعب فيها البشر أدواراً مختلفة، وكانت الوسيلة الوحيدة لتخليد ذكرى مشاهير وشخصيات تاريخية تتجسد عبر الرسومات والمنحوتات التي ما زلنا نستقي منها تصوراً يروي فضول تعطشناً كبشر للتفاصيل الجسمانية لشخصيات خالدة، تقف كنماذج لتلك المراحل التاريخية في عمر البشر.
وتخليد الشخصية بواسطة الرسم أو النحت قد بدأ بالحفر فوق الجدران والأواني، سواءكانت فخارية أم نحاسية قبل أن يستخدم القماش والورق لنقل وتخليد تلك الصور التاريخية التي نجدها على الآثار القديمة.
الصورة
وللصورة.. كما هو معروف لدى علماء النفس أثر كبير في إثارة المشاعر، وتحريكها.
لا شك أننا جميعاً نحتفظ بصور لشخصيات وأحداث، تاريخية، حالت ظروف التصوير والرسم آنذاك عن تخليدها، وبقيت لها في ذهن كل منا صورة نستقيها من بعض الأحاديث، والروايات عن حقيقة هيئتها.
لعلَّ الشخصيات الدينية تأتي في مقدمة الخالدين في التاريخ، لما تشكله من تأثير مباشر بحياة البشر في زمننا الحديث، بل ولعلها هالة القدسية المقترنة بشخوص الأنبياء والرسل.. ودورهم الأساسي في حياة البشر اليومية، يدفع بنا جميعاً إلى الاحتفاظ بتلك الصور المقدسة، في عقولنا.
وإذا كان الإسلام قد حسم موضوع الصورة والرسم والنحت وذلك من خلال تحريمه صراحة وبوضوح، أي رفض فكرة التجسيد ولكن الأمر ليس كلك بالنسبة للمسيحية، حيث تتصدر الصور والتماثيل واجهات الكنائس، وأماكن العبادة.
وقد أثارت مجلة الصنداي تايمز “Sunday Times” في ملحقها الثقافي الصادر في أبريل 1994 بعضاً من ذلك الجدل حول صورة ورسم السيد المسيح عليه السلام الحقيقيتين، متنقلة بين تفاصيل مختلفة لفنانين ورسامين اشتهروا برسوماتهم الدينية إذ لونت عيناً المسيح بلون مائل إلى الإصفرار مع فنان مثل بيرور ديلا فرانسيسكا “Piero della Francesca” بينما هما زرقاوتان مع “سيما كونجليانو” “cima da Conegliano” ومع ذلك فإن جيوفاني بيلليني “Giovanni Bellini” يرسم السيد المسيح بعينين بنيتين!! واستطاع “اكرافاجيو” “Caravagio” أن يتجنب ذلك الجدل بتصوير السيد المسيح مغمض العينين!!
الحقيقة
في الحقيقة لا يوجد وصف للسيد المسيح في الإنجيل إطلاقاً، ولا يوجد في أي من الوثائق المعاصرة لزمن المسيح والتي تتحدث عن حياته.
ولم يترك أحد من أتباعه، ولا من المؤرخين اليهود مرجعاً أو إشارة يمكن الاعتماد عليها!! ومع ذلك فقد استطاعت الرسومات والصور الحالية أن تستقر في خيالنا جميعاً.. كصورة حقيقية فهل حقاً استطاع الفن أن يرسخ هذا الوجه الذي ألفناه الآن للسيد المسيح؟!
التحريم
وعلى الرغم من أن رسم السيد المسيح وعلى صورته الحالية قد استقر في مشاعر الملايين من المسيحيين، إلا أن هنالك فريقاً ما زال ينادي بوجوب تحريم تصوير وتجسيد صورة السيد المسيح، وذلك وفق ما جاء في ثاني التعاليم العشر “second commandmant” في أول صفحات الإنجيل.. وتحديداً في المقطع 20 : 4 حيث يقول السيد المسيح “لا تصنعوا لأنفسكم صوراً لأي شيء مما هو في السماء أو في الأرض، ولا تسجدوا لأي رمز”.
وهذا القول يستند إليه البعض في تحريم تصوير السيد المسيح، إلا أن ذلك لم يمنع الفنانين من الاستمرار في طرح خيالاتهم عن شكل السيد المسيح وهيئته.
الجدل الفني
واستمر الجدل حول الشكل قائماً، فبينما يرسم “لورينزوموناكو” “Lorenzo Monaco” السيد المسيح بشعر ذهبي أصفر، يرسمه “هيرونيمس” بشعر أحمر ناري، وذلك الاختلاف في لون الشعر لم يمنع الفنانين من الوصول إلى صورة متشابهة لوجه السيد المسيح.
وكأي من المعتقدات أو الرواسخ فلقد تم التوصل إلى صورة موحدة من خلال مجلس لرجال الدين عقد في العام 325م في محاولة للخروج بملامح بشرية ذات إيحاء قدسي، ولا عجب أن تكون الخمس مئة سنة الأولى من أكثر السنوات حرجاً في محاولة الخروج بصورة موحدة، بل استغرق تصوير السيد المسيح معلقاً فوق الصليب ما لا يقل عن 600 عام.
لقد ظهرت روايات كثيرة تحكي عن الطريقة التي حفظ بها رسم السيد المسيح وصورته.. منها أن القديسة فيرونيكا “st. veronica” أعطته منشفة مسح بها وجهه وبقيت ملامحه ملتصقة بها، وقد جسد أحد الرسامين، وهو “بسانو” Bassano هذه الرواية بلوحة ما زالت من أبرز مقتنيات المرسم الوطني National Gallery.. تصور المسيح وهو يتسلم المنشفة من القديسة فيرونيكا.
وبالرغم من رواج رواية القديسة فيرونيكا إلا أن البعض يرى أنها لا تعدو عن كونها من روايات العصر الذهبي للرواية الدينية، وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي.
في الواقع أن أكثر الجدل والاختلاف حول صور السيد المسيح كان قائماً في بداية المحاولات الفنية لتشخيصه، وبحيث جاءت أولى محاولات التجسيد مصورة المسيح راعياً لأغنامه، وحاملاً إحداها، فوق كتفيه، بينما تظهر ذات الكتفين فيما بعد فوق الصليب. وقد كانت أكتافه في بداية تصويرها ممتلئة شباباً وصحة وأملاً.
الفن الروماني
لقد كان للفن الروماني أثره الواضح وانعكس بلا شك على أولى صور المسيح فجاءت بصور أشقر وأجعد الشعر قريباً في شبهه من إله الشمس الذي ظهر في الأساطير الرومانية.
ومن الصعوبة التي واجهها الرسامون في البداية هي كيفية خروجهم بصورة تحوي كثيراً من القدسية لإنسان لا يختلف في شكله عن أي إنسان آخر خاصة وأن الصور آنذاك كانت تلجأ إلى المبالغة في تصوير الآلهة سواء كانت الإغريقية أم الرومانية.
ولم يكن الجدل في حقيقة الهيئة مقتصراً على السيد المسيح وحسب، وإنما طال أتباعه، وشخصيات أخرى لها أهميتها في الديانة المسيحية، و”مريم المجدلية” كانت إحدى تلك الصور التي تفاوتت التقادير بشأن هيئتها وشكلها، فجسدت بهيئة تتفق مع دورها كغانية أعلنت توبتها، ومنهم من صورها شقراء، والقليل حاولوا أن يجعلوا من هيئة مريم المجدلية قريبة من رواية “عيد الفصح” حيث كان لها موقف هام في أحداثه.
لقد استطاع جيوفاني سافالدو أن يجسد مريم المجدلية في واحدة من أجمل لوحاته، وهي من أهم مقتنيات “المرسم الوطني” في لندن، حيث بدت “المجدلية” باكية، تخفي حزنها بإحدى يديها.
قضية الجدل
لعلَّ ما يثير في قضية الجدل بشأن صورة المسيح.. هو أن كل الفنانين وفي كل المراحل خرقوا ولا شك قول السيد المسيح في أحد تعاليمه بعدم تصويره أو رسمه، إلى جانب أن الفن التأثيري البيزنطي تفوق على شكل وصورة المسيح وظلت باقية ومسيطرة في أغلب ما وصل إلينا في هذا القرن من صور وتجسيد. وعلى الرغم من الهيئة البشرية لصور السيد المسيح ورسوماته قد بقيت هي الغالبة، إلا أن رسوماً أخرى مبالغاً فيها قد لقيت طريقها إلينا ويعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي. أما في القرون الوسطى.. وبداية عصر النهضة في أوروبا، فقد كان الجدل الدائر هو في المشهد الذي يصور السيد المسيح فوق الصليب. وبحيث بقيت ملامح كثيرة، رسم وصور، في تلك المرحلة حية إلى عصرنا هذا.
بطبيعة الحال، لا أحد يعلم على وجه التحديد كيف كان السيد المسيح، وما هي هيئته، وكل ما نرى الآن من محاولات لها ولا شك جذورها التاريخية، فكما صوره الإغريق بملامح إغريقية، فقد ألبسه الرومان إكليلاً مشابهاً جداً للإكليل الذي يزين رأس الإله “أبوللو” إله الشمس لوحات تثير تساؤلات حول الهوية الفنية الألمانية.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى