العصافير الأمريكية والحجر الأفغاني

لقد شكك الكثيرون عند بدء الحملة العسكرية الغربية على أفغانستان في قدرة الغرب فعلاً على حسم المعركة لصالحه، لأسباب يعود أغلبها إلى المشاهد التي كانت تبثها أجهزة الإعلام المختلفة، والتي كانت تصور المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ دون أن يكون هنالك أثر لمواقع عسكرية أو جسور أو مطارات! ففي الأسابيع الستة الأولى للهجوم لم يكن هنالك أي دليل على إنجاز سياسي، على الرغم من وضوح التفوق العسكري الغربي الذي استطاع أن يجبر قوات طالبان على الاختفاء!
أما الآن وقد سقطت كابول وغيرها من المدن “الطالبانية”، فقد عادت تلك الشكوك، وإن كانت في هذه المرة مصحوبة بجملة من التكهنات التي لقيت رواجاً كبيراً، وعلى كافة المستويات! تكهنات حول الأهداف الغربية التي لا تقل أهمية عن الأهداف العسكرية، والتي ستكون محور العمليات المقبلة!
أحد تلك التكهنات يقول إن الولايات المتحدة باعتبارها القائدة للتحالف الدولي ضد الإرهاب ترمي إلى ضرب أكثر من عصفور وبالحجر الأفغاني! وإن أحد تلك العصافير هو مجموعة العمالقة في جنوب شرقي آسيا، أي في اليابان والصين وكوريا الجنوبية من جهة وماليزيا وسنغافورة وتايوان وإندونيسيا من جهة أخرى! والمطلوب هنا منع تلك الدول من تطوير نفسها سياسياً أو عسكرياً والسماح لها فقط بالتطور والنمو الاقتصادي! خصوصاً بعد أن أصبحت مجموعة العمالقة هذه منافساً اقتصادياً شرساً لأوروبا والولايات المتحدة! وأي منافسة سياسية أو عسكرية مشابهة لتلك المنافسة الاقتصادية ستخلق من تلك المجموعة قوة عظمى قد تؤدي إلى قلب موازين دولية كثيرة تتضارب مع المصالح الأوروبية والأمريكية! فاليابان مثلاً تحتل المركز الثاني بعد الولايات المتحدة في تمويل صندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، وفي عام 1991 مولت الرساميل اليابانية ثلث العجز في الميزانية الاتحادية الأمريكية، وبحسب بعض التقديرات فإن اليابان قد تسبق الولايات المتحدة في رقم الناتج الاقتصادي في أوائل القرن المقبل! ولقد اشترت اليابان حتى الآن القسم الأهم من أبنية المكاتب في أمريكا، كما اشترت مؤسسات عديدة متوسطة الحجم فيها، حتى إن شعارات أصبحت ترفع اليوم في أمريكا وتقول: “إن اليابانيين يشترون أمريكا وغداً سيبيعونها”.
تكهن آخر من جملة التكهنات الرائجة هذه الأيام يقول إن هنالك (قضايا تاريخية) تسعى أمريكا إلى معالجتها في أثناء العمليات العسكرية على أفغانستان! منها إعادة الثقة بقدرتها العسكرية على الحسم في صراعات عقائدية وفكرية! فأمريكا لن تنسى أن الشعب الأفغاني هو الذي هزم الجيش الأحمر الشيوعي وأخرجه من أفغانستان، بينما عجزت الولايات المتحدة الأمريكية عن هزيمة حلفاء هذا الجيش من الأنظمة الشيوعية في دول مثل فيتنام وأنغولا وكوريا! وتلك بالمناسبة تشكل نوبة وجرحاً غائراً في الثقة الأمريكية بالجيش والاستعداد العسكري بشكل عام، عالجتها حرب الخليج الثانية بشكل سطحي فقط نظراً لظروف هذه الحرب، وتعيد أمريكا علاج هذا الجرح في مواجهتها العسكرية الحالية مع قوات طالبان!
لقد تحتم على الولايات المتحدة قيادة العالم إثر انهيار المعسكر الشيوعي! ولقد عبر الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون عن هذا الحلم الأمريكي بقيادة العالم حين قال: “لقد كان تقدم أمريكا مدهشاً، فنحن الأمة الأغنى في العالم، والفقير جداً في بلادنا يعتبر غنياً في ثلاثة أرباع بلاد العالم حالياً، ونحن أقوى قوة عسكرية، وعندنا أحسن جامعات”.
ولكن هل تكفي القوة العسكرية والتفوق الاقتصادي لقيادة العالم؟! التاريخ لا يقول ذلك، فهزيمة الأقوياء في الحرب الثانية، أي: ألمانيا واليابان، تؤكد أن هنالك مقومات للانتصار بخلاف القوة العسكرية والتفوق الاقتصادي، فبريطانيا مثلاً دخلت الحرب العالمية الثانية وهي قوة عظمى وخرجت منها منتصرة لتصبح قوة ثانوية!
إذن قد يكون من الصعب التكهن وبدقة بما سيحدث في أفغانستان، أو بالتطورات في الحرب العالمية ضد الإرهاب! لكن من المؤكد أن هنالك عصافير أمريكية كثيرة سيسقطها الحجر الأفغاني!