شئون دولية

ومن التاريخ عظة

ومن التاريخ عظة

احتفل العالم مؤخراً، وبخاصة أوروبا، بمرور خمسين عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية!! وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر الأوروبية حول تلك الحقبة كل بحسب الظروف التي عاصرها آنذاك.. والانعكاسات التي يعيش إفرازاتها حاضراً، على الرغم من هذه الاختلافات، إلا أن الجميع يرى في الحرب ونهايتها تاريخاً عبرت من خلاله أوروبا إلى حاضرها الذي هو قطعاً أكثر إشراقاً وأملاً واستقراراً!! روسيا، مثلاً، ترى في نهاية الحرب إزالة لخطر الاستعباد الفاشي وانتصاراً لقضية الحق والخير!! أما النمسا فترى في انتهاء الحرب ولادة لنظام عالمي جديد، يحمل آمالاً عريضة لمستقبل أفضل من خلال التعاون الدولي في المجالات السلبية تحت مظلة الأمم المتحدة!! بالنسبة لبلد كاليونان، فإنه يرى أن الحرب قد جعلت من أعداء الأمس أصدقاء اليوم!! أما فرنسا فترى في تاريخ الثامن من مايو 1945 نبراساً للحرية التي يتمتع بها الشعب الفرنسي الآن!! أما بريطانيا فلا تزال تسترجع كلمات رئيس وزرائها آنذاك “تشرشل” حين قال مودعاً الحرب “في الحرب نحن بحاجة للتصميم.. وفي الهزيمة للتحدي.. وفي النصر العفو عند المقدرة.. وفي السلام للنوايا الحسنة”!!
أوروبا لا تحتفل بذكرى انتهاء الحرب الثانية، وإنما تحتفل بإنجازاتها الممثلة في الاستفادة من دروس التاريخ وعبره!! فالثامن من مايو كان بإمكانه أن يكون بداية لسلسلة من حروب وقلاقل!! لا نهاية لدرس قاس.. عزمت أوروبا بسياستها وقادتها أن لا تدع قسوته تضيع سُدى ولا معاناته تذهب أدراج الرياح!! أو كما أوجز “هيغل” تلك الحكمة في كلماته القائلة “أن بومة مينرفا لا تحلق إلا عند الغسق” وهي مقولة تفيد أن الحكمة تقف في أحلك الأوقات!! وليس هناك حكمة للإنسان بقدر حكمته في الاستفادة من دروس التاريخ وعبره!! واسترجاع مواعظه!! بل ولقد ميزت قدرة الإنسان على التذكر والاسترجاع، ميزته عن باقي الكائنات الحية!! وجعلته قادراً – إذا ما كان حكيماً – على الاستفادة من تجاربه ومعاناته السابقة!!
لقد افتقدت أوروبا لحكمة التاريخ في أعقاب الحرب الأولى!! فكان أن دفعت ثمناً باهظاً في حرب ثانية لم يفصل بينها وبين الأولى سوى عقدين من الزمان!! راح فيها من الأرواح والثروات ما جعل أوروبا تقسم بأن لا تنساها ذاكرة الإنسان!! وبأن أحداث التاريخ ووقائعه لا تسيرها الصدف العمياء.. وإنما تفاعلات الأحداث فيما بينها، وارتباطها بما سبق، هذا الارتباط الذي وإن لم تكن وقائعه ماثلة للعين وحاضرة، فإن دلالاتها وعللها تبقى مؤثرة وفاعلة!!
من سمات التاريخ القاسية أنه لا يرحم ولا يغفر للذين يتهاونون معه.. وينكرون شأنه في مجريات الحاضر وأموره!! ولا للذين يرفضون العلة في التاريخ ويؤمنون بالمصادفة.. فتلك كلها أسلحة الفاشل والعاجز!! التي يهرب من إخفاقاته وفشله!!
الخمسون عاماً التي عاشتها أوروبا في أعقاب الحرب الثانية، والتي يحتفل أهلها بذكراها الآن، هي بلا شك حصيلة الحكمة في التعامل مع التاريخ!! بالإضافة إلى عنصر الصدق في تعليل أحداثه وطرح مسبباتها!! فلقد دفعت شعوب كثيرة ثمن تزوير التاريخ، وهو ما حاولت أوروبا أن تتداركه في كتابة تاريخها الحديث، بل لا نبالغ إذا ما اعتبرنا تداعيات الأحداث في يوغسلافيا السابقة، هي من نتائج تزوير التاريخ وإنكاره.. وأن الأعراق المتصارعة في يوغسلافيا هي بحاجة إلى مجابهة ومصارحة مع التاريخ.. أكثر من حاجتها إلى المجابهة العسكرية!!
قد يرى البعض في التمسك بالتاريخ جموداً وابتعاداً عن التحديث!! هذا بالإضافة إلى إمكانية التزوير في التاريخ والتي تجعل منه علماً ناقصاً!! إلا أنه وبرغم احتمال الحقيقة في ذلك، سيبقى التاريخ هو المعلم الأول!! وستبقى عوامل التزوير – مهما بلغت من دقة – عوامل هشة سرعان ما تدحضها وقائع حاضرة!! لتبقي للتاريخ مكانته المتميزة في التعليم.. وذلك من خلال أحداثه.. وعبره!! أو كما قيل دوماً فيه أن “التاريخ يعلم الفلسفة بطريق الأمثلة”.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى