هل يبني العرب عراقاً جديداً؟

هل يبني العرب عراقاً جديداً؟
يرى الكثيرون أن التحالف الدولي الذي واجه النظام العراقي في أعقاب غزوه للوطن.. ومن ثم إجماع ذلك التحالف على استخدام القوة العسكرية لإنهاء احتلال نظام بغداد للوطن.. يرى هؤلاء أن ذلك التحالف قد أصبح هشاً متزعزعاً اليوم… فها هم بعض جماعات النواب في البرلمان الروسي يطالبون بإعادة النظر في سياسة روسيا تجاه الخليج ويسمونها (السياسة غير المتوازنة)… وها هي فرنسا تشجب العمليات العسكرية الأخيرة على العراق وتركيا تطلب إعفاءها من المسألة برمتها… بل وها هم حلفاء التحالف الدولي من العرب يتباطأون بعد أن تبين أن العمليات العسكرية الأخيرة على العراق قد تمت دون تشاور بينهم وبين واشنطن وخاصة بعد أن وجدوا أنفسهم خارج النظام الأمني الجديد للخليج… ثم أخيراً ها هو الموقف الأمريكي الذي يبدو أنه قد بدأ يصغي قليلاً لرغبة رئيس النظام العراقي بفتح صفحة جديدة مع واشنطن بعد استقباله لوزير العدل الأمريكي الأسبق “رامزي كلارك” الذي نقل عن رئيس النظام العراقي قوله: “أعتقد أن رئيس أكبر دولة في العالم يحتاج إلى محاولة استخدام الحكمة وليس الأسلحة.. ثم ها هو أيضاً وزير الخارجية التركي يؤكد أن تركيا ستبذل كل ما في وسعها لتمكين العراق من استئناف علاقاته الدولية العادية إذا تقيد بعقوبات الأمم المتحدة المفروضة عليه منذ غزوه الكويت، وأيضاً ها هو رئيس دولة الإمارات يتلقى رسالة من الرئيس اليمني تتعلق بالعلاقات الثنائية بين البلدين والقضايا ذات الاهتمام المشترك، وأخيراً تأتي التحركات السورية المصرية بشأن الوضع في العراق كل ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن هنالك جهوداً على المستويين الدولي والعربي لكسر العزلة عن نظام بغداد.
وإنصافاً منا للحق الإنساني بصفة عامة لا بد لنا من تأكيد حقيقة أن الإدانة لكي تتجلى بصورة أوضح الآن وبعد مضي ما يقارب السنتين على تحرير الوطن.. وهي أن الأمن سواء في الوطن أو في المنطقة بأسرها لن يكون واقعاً قائماً فعلاً.. طالما أن الجهود التي أعادت الشرعية والحق إلى الوطن.. لم تكمل جهودها في رسم صورة واضحة للعراق.. أو بمعنى آخر بإعادة شرعية الحياة إلى العراق.
بداية يجب الإشارة هنا إلى أن الترتيبات الأمنية لمرحلة ما بعد حرب الخليج وضعت في اعتبارها الأول إشراك العراق في صيغة تلك الترتيبات وإن لم يرد ذكر صورة واضحة للعراق الذي سيشترك في تلك الترتيبات الأمنية.. فالتصور الذي أورده الرئيس الأمريكي السابق للعراق في حديث له في أعقاب حرب الخليج بتاريخ 12/3/1991 هو تصور فضفاض وغير محدد.. فالرئيس “بوش” كان يرى أن العراق قوة إقليمية لها وزنها وتاريخها العريق.. وليس في مصلحة الخليج ولا في مصلحة الولايات المتحدة خلق فراغ أمني في العراق، أو أن يكون هناك عراق غير مستقر.. وأنه يجب أن يسعى العراق أن يكون جزءاً هاماً في منطقة الخليج وأن يتخلى عن النوايا العدوانية تجاه الكويت وتجاه جيرانه.
وبالطبع فإن أشواك العراق في الترتيبات الأمنية يعني العودة إلى التعامل معه مما يعني إنهاء عزلته وإعادته إلى محيط الحياة السياسية العالمية… وهو أمر بات ملموساً من خلال التغير الواضح في سياسة الدول الغربية تجاه العراق.. ثم في الجهود العربية النشطة الآن لإنهاء عزلة العراق ولكن السؤال الذي يبدو أكثر إلحاحاً هنا.. هو هل يعني ذلك التحول في السياسة الدولية والعربية إمكانية التعامل مع صدام حسين؟!! والذي لم يرتكب الجرائم بحق جاره فقط… وإنما بحق شعبه على مدى أكثر من عشرين عاماً!! خاصة وأن الوضع القائم الآن لا يشير إلى إمكانية حدوث تغير في النظام القائم في العراق ولا في تنظيم مجموعات المعارضة العراقية.. والتي أثبتت فشلها في التعامل السريع مع الوضع الحرج الذي خلقته حرب تحرير الوطن.
لقد خفت حدة العداء لنظام صدام حسين ولشخصه من قبل الدول الغربية.. وذلك من خلال التلميحات المتكررة إلى إمكانية فتح صفحة جديدة مع رئيس النظام العراقي.. وكذلك خفت الحدة ذاتها من قبل بعض الحكومات العربية والتي أصبحت تهدف إلى إدخال حاكم بغداد في المنظومة العربية من جديد… وقد لا يكون في ذلك ما يثير الاستغراب فحاكم بغداد لا يشكل خطراً حقيقياً على تلك الحكومات.. ولا تهديداً لوجودها بقدر ما هو واقع أليم وسيئ وخطر مستمر وأكيد على شعوب المنطقة بأسرها وليس على الشعب العراقي وحسب، لذلك فإن عودة التعامل مع العراق من قبل تلك الحكومات التي لا تجد ضرورة في وضع شروطها مسبقاً يعتبر أمراً طبيعياً، فلو كانت الشروط العربية تشترط بأن عودة التعامل مع العراق ستبقى رهن إقامة نظام مختلف الصيغة أقل عنفاً ودموية وأكثر حرية وديمقراطية فإن ذلك سيشكل عاملاً حرجاً لحكومات تشترط الديمقراطية والحرية كأساس لعودة التعامل دون الاعتراف بها أو التعامل من خلالها، على الرغم من كل الإيجابيات التي قد يشكلها شرط كهذا من كونه عامل ضغط قد يسرع في عملية تغيير النظام.
أما بالنسبة للدول الغربية.. فبالإضافة إلى كون نظام بغداد لا يشكل خطراً مباشراً على تلك الدول.. ولا يخل بأمنها فإنه نظام تؤكد استمراريته ضرورة وأهمية الترتيبات الأمنية القائمة في المنطقة، وما تتطلبه تلك الترتيبات من صفقات سلاح وتدريبات عسكرية فإقامة عراق مستقر الحكم ومستتب الأمن ستؤدي حتماً إلى تضاؤل حاجة المنطقة إلى كل تلك الاستعدادات العسكرية والترتيبات الأمنية.. ولا حاجة بنا هنا لذكر حماس الشركات العالمية وترحيبها برفع الحظر عن العراق.. وتحت أي نظام كان وما ينتظرها من استثمارات مغرية.. من خلال إعادة إعمار العراق وإصلاح ما خلفته الحربان الأولى والثانية كلتاهما.
قد لا ينكر أي متتبع للأمور مدى المعاناة التي عاناها ويعانيها الشعب العراقي تحت نظام الحكم القائم.. وقد لا ينكر كذلك أي عربي غيور على عروبته وانتمائه مدى تفككنا كأمة عربية وأثر ذلك على نهضتنا وازدهارنا ولكن الحقيقة التي نكاد أن نغفلها جميعاً.. أننا نتقاسم جميعاً مسئولية ظهور صدام حسين.. ولن نكفر أبداً عن تلك الخطيئة إلا من خلال الإصرار على انطلاقة جديدة تبني عراقاً جديداً ينصهر في بوتقة عربية تتساقط عنها كل صدامات العرب.
