هل بدأت حرب الحضارات؟!

هل بدأت حرب الحضارات؟!
في العام 1924… وبينما كان الزعيم الألماني “هتلر” معتقلاً في قلعة “لاندسبرغ” بعد أن فشلت محاولته الانقلابية.. في ذلك العام كتب “هتلر” كتابه الذي عرض فيه سيرة حياته ومذهبه ورؤيته لمستقبل ألمانيا في كتاب “كفاحي” لم يخف هتلر نزعته العنصرية المليئة بالعنف بهدف تحريك “عصبية تلهب روح الجماهير وتدفعها إلى الأمام ولو بعنف هستيري” وكما جاء على لسانه.
قاعدة “هتلر” الأساسية في مشروعية الكفاح والنضال من أجل إعادة بناء الرايخ تتمثل في رابطة الدم، وهو لم يتوان عن التصريح بأن مشروعه يكمن في بناء وخلق نموذج جديد من الفرد الجرماني، ولا يهم بذلك الأسلوب الذي يتم من خلاله “تطهير الأسرة الجرمانية من جميع العناصر المريضة التي تسللت إليها”.
كتاب هتلر بيع منه أربعة ملايين نسخة فقط في عام 1939 وحده وبرغم كل الأفكار اللاعقلانية التي احتواها.. فقد أشعل الكتاب الحماس في قلوب الألمان حينذاك.
الآن، يبدو أن التاريخ… في إحدى محاولات العودة، يعود إلينا بصورة مشابهة… لا تخلو من العنصرية والعنف، بصورة القومي المتطرف “جيرنوفسكي” الذي يبدو أنه حريص على استرجاع وتقمص الشخصية الهتلرية بأدق تفاصيلها فهو يبدأ في نشر كتاب يحوي سيرته الذاتية، وفلسفته السياسية.. والكتاب يحوي نبرة صريحة في التحريض على الحرب، كتاب “جيرنوفسكي” والذي يحمل عنوان “القفزة الأخيرة نحو الجنوب” يضع فيه المتطرف الروسي رؤيته الذاتية مما أسماه بالخطوط العريضة لروسيا المستقبل، مؤكداً على ضرورة إحياء القومية السلافية… والتي ستصل حتماً إلى قلب أوروبا وروسيا مروجاً عن خطته في دفع الجنود الروس وتمكينهم من غسل أحذيتهم في مياه المحيط الهندي!!
إذا كانت نقطة الالتقاء الأولى بين الزعيمين… “هتلر” و”جيرنوفسكي” قد ترسخت وبرزت في توجهاتها العرقية.. والعنف الذي ميز لغة كلا الشخصيتين، فإن هناك تشابهاً لا تخطئه العين والأذن… بين الظروف التي استخدمها الزعيم الألماني آنذاك لتبرير اجتياحه وتدميره لكل من وما وقف في سبيل امتداده التوسعي… وبين الظروف التي أصبحت تحكم روسيا الآن.. واستطاع “جيرنوفسكي” أن يسخرها بدرجة أكسبته الأغلبية البرلمانية، فإذا كان “هتلر” قد روج لمشكلة تزايد السكان في ألمانيا، والتي برر على ضوئها حتمية الفتح العسكري النازي لاكتساب أراض جديدة في أوروبا، فإن “جيرنوفسكي” قد أثار تدهور محاولات الإصلاح الاقتصادي في روسيا، ومعدلات التضخم المرتفعة، والإحساس بالذل الذي أصبح يعتري المواطن الروسي بعد أن تراجع به دعاة الإصلاح من مواطن ينتمي إلى دولة عظمى إلى متسول يقف في طوابير “الماكدونالدز”.. ويتسول “الهوت دوغ”… ويرتدي الجينز الأزرق.
موجة الغضب والتذمر التي أصبح عليها رجل الشارع الروسي تجعله ولاشك، يجد متنفساً حقيقياً في ما يروج له “جيرنوفسكي”… حتى وإن ساورته الشكوك في مصداقية ما يتم طرحه من حلول للتعثر الذي أصبحت عليه روسيا.
الألمان حاولوا إسقاط تركة الإهانة والذل التي لازمتهم إثر خروجهم مهانين ومذلولين من الحرب العالمية الثانية، فوجدوا في “هتلر” الملجأ الوحيد لإعادة بناء وإحياء الذات الألمانية.. وهو الشعور نفسه الذي يعتري المواطن الروسي الآن، والذي أصبح ولا شك يلجأ إلى كلمات.. “جيرونوفسكي” كلما ازدادت حدة غضبه وسخطه من سياسات الحكومة في روسيا.
الذين يقللون من نظريات “جيرنوفسكي” الثائرة والعنصرية.. ويرونه في تصورهم إنساناً منفعلاً.. ومتطرفاً في حسه وعواطفه الوطنية.. ما عليهم إلا أن يعودوا إلى سيرة “هتلر” الذاتية.. والتي تحكي تفاصيلها عن بداية شاب طموح يسعى إلى ترويج نظريته عن القومية.. والتي أصبحت فيما بعد برنامجاً لحزب العمال الألماني في العام 1920 والذي غدا في وقت لاحق يعرف باسم “الحزب القومي الاشتراكي” قبل أن يبسطها “هتلر” لتصبح أساساً لكتابه الشهير “كفاحي”، حينها لم يعر العالم أهمية تذكر لما روج له “هتلر” في نظريته وكتابه.. ولم يروا فيه سوى شاب طموح يسعى إلى مواساة بني جنسه من جراء ما أصابهم في الحرب العالمية الأولى، وما تبعها من رضوخ وإهانة للشعب الألماني.. في مثل معاهدة فرساي، إلى أن تحولت الشعارات النازية إلى أفعال ميز طابعها العنيف والانفعالي صدى أزمة الشعب الألماني النفسية الحادة.
“جيرنوفسكي” الآن معتوه لدى البعض ومتطرف لدى غيرهم.. بل ويعاني من خلل عقلي، وكما جاء على لسان شاب روسي.. إلا أن الجانب المهم هنا أنه يحظى بأغلبية برلمانية، ويتحدث عن سلاح سري أقوى من القنبلة الذرية بكثير، ويهدد دولاً كثيرة بإشعال آتون الحرب العالمية الثالثة، أما الجانب الأهم، فإن الغضب يتزايد في روسيا والشارع الروسي يزداد تذمراً بالإضافة إلى عامل جوهري، وهو أن السلاح الروسي لا يزال ماضياً والجيوش الروسية ما زالت في مواقعها في مناطق كثيرة من العالم، وبذور الخلاف تنتظر من يسقيها ويرعاها من جديد.. وخاصة بعد الإحباط الذي سببه النظام العالمي الجديد.. وسياسات التمييز تجاه القضايا الإنسانية.
العالم لا يزال يعيش مرحلة تفكك الاتحاد السوفيتي، والتي هي بدون شك أبرز ما يميز نهاية القرن الحالي.. وإفرازات التفكك ما زالت كالنار الآفلة، فالصورة النهائية لانتهاء تلك الحقبة لم تكتمل بعد.. وملامح الصراع المقبل، لا تزال باهتة، على الرغم من تزايد الآراء القائلة بكونه صراعاً حضارياً، أكثر من كونه قومياً كالصورة التي ميزت المرحلة السابقة، والتي يوشك المجتمع البشري أن يتخطاها.
وإذا كانت تلك الآراء والتكهنات صادقة، فهل يعني ذلك أن “جيرنوفسكي” سيكون الرجل الذي أشعل “حرب الحضارات” خاصة بعد تصريحاته اللاذعة للمسلمين المجردين في مواجهة الصرب المعتدين.. والتي أعلن من خلالها الحرب بين الإسلام. والأرثوذكسية السلافية!!

