القضية الفلسطينيةملفات ساخنة

هل انتصر الشر؟

هل انتصر الشر؟

لا يوجد داعٍ للعودة إلى تفاصيل خطاب نتانياهو في الكونغرس، فهو مُتاح لمن يرغب في معرفة ما آلت إليه النفس البشرية من تردٍّ في أبسط مقومات الإنسانية، وأدنى درجات المصداقية. لكن الخطاب أثار من جانب آخر مسألة الخير والشر في النفس البشرية بشكل عام، وعما إذا كان ما يحدث في غزة منذ أكثر من عشرة أشهر، من قتل وتجويع وتهجير ودموية، وفي ظل صمت العالم، وعجزه حتى عن إنقاذ أو إطعام طفل جائع، مما دفع الجميع للتساؤل عما إذا كان الشر قد انتصر في معركته الخالدة مع الخير، خاصة في ظل ما ورد في خطاب نتانياهو من إشارات إلى أن الصراع الدائر هو بين الخير والشر، وبين عالم الظلام وعالم النور، وبين المتوحشين والمتحضّرين، وهو ما يعيدنا بالذاكرة إلى خطابات مشابهة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين تم تقسيم العالم إلى حضارة مُتمَدّنة ومتحضرة، وحضارة متوحشة وهمجية، وإما أن تكون معهم في معسكرهم أو ضدهم في معسكر “الشر الهمجي”.
المشهد السريالي، الذي شهدت قاعة الكونغرس أحداثه، كشف عورات كثيرة، خاصة في ظل استمرار عمليات الإبادة الجماعية، التي يتعرض لها أهلنا في غزة، وبأن كل مؤسسات وهيئات ونقابات حقوق الإنسان وحماية المدنيين ووكالات الغوث في الحروب ونجدة العالقين والمهجّرين، ليست سوى شعارات مسرحية أدّاها نتانياهو في مسرحيته السريالية هذه، مدعوماً بطاقم من ممثلي هيئات الدفاع عن البشر ونصرة الخير ومحاربة الشر.
أكذوبة حقوق الإنسان، وحماية المدنيين في الحروب، ووكالات غوث اللاجئين، لم تعد تُسعفها ما تنشره وتبثّه من قوانين شفوية حول ضرورة عدم المساس بالمدنيين، والتوقّف عن انتهاك حقوق الأسرى، والامتناع عن نسف المساكن، ليتكشّف مدى زيف مثل هذه العبارات اللغوية الخاوية، التي تخرس في مواجهة الانتهاكات في غزة اليوم.
في مقطع فيديو مؤثّر، بثّه أحد الشباب من مصر، يتحدث فيه بحسرة وألم، مُتسائلاً: كيف سَيُخبر ابنته ليلى، حين تسأله، وهي تشاهد ما يحدث في غزة، عن سبب انتصار الشر على الخير بهذا الشكل، وعن دورنا كشعوب وأنظمة وعقيدة في التعامل مع مشهد مؤلم كمشهد غزة اليوم؟ مُذكّراً بأن أصعب تحدٍّ يمر على الجيل الجديد هو اختلاط مفهوم الخير والشر لديه، ومعه تسقط منه صفة الإنسانية بالتزامه الحياد في موقف كهذا لا يُبرّر أي حياد، وبغض النظر عن مبرراته، ويختم محدّثنا في الفيديو بتحذيره من أن سقوط صفة الإنسانية يعني تهديداً مستقبلياً للأمن القومي، فالجيل الذي يكبر في ظل اعتياده الحياد تجاه أشلاء الشهداء، ومجاعة الأطفال، وتهجير الآمنين، ونسف المساكن، سَيَتَقبّل مستقبلاً أي انتهاك مشابه، سواء كان في حقه أو حق أحد آخر في دولة أخرى، وبالتالي سيعجز في أي يوم من الأيام عن الدفاع عن أمنه القومي المباشر.
الصراع بين الخير والشر كان وسيظل قضية يتناولها الفلاسفة والعامة، تكون دائماً فيها الغلبة والنصرة للقوي وليس لصاحب الحق، والمشاهِد من التاريخ خير دليل على ذلك، وغالباً ما يكون عمر الخير إن انتصر قصيراً.
نتانياهو استعان بأطروحة الخير والشر في مسرحيته السريالية تلك، واستعار أيديولوجية صراع الحضارات ليؤكّد “حقه” في هذا الصراع، مُعتبراً أن حربه ضد المقاومة الفلسطينية هي جزء من صراع أو صدام الحضارات.
لكن قبس من الحق أنار شيئاً من ظلامية المشهد، وذلك في المقاطعة الشجاعة، التي شهدها نتانياهو في مسرحيته السريالية هذه، سواء من أعضاء في الكونغرس، أو من جماهير اصطفت خارجه، مُلوّحة بأعلام ويافطات الحق، لكنه مشهد يخلو وبكل أسف من دعم مشابه في ساحات ودول عربية، كانت أولى بأن تنطلق صيحات الحق من صفوفها نصرة لأهلها وللخير في مواجهة الشر.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى