ملفات ساخنة

نظام بغداد.. وشرعية الأنظمة العربية

نظام بغداد.. وشرعية الأنظمة العربية

مع اقتراب الذكرى الثانية لاندلاع حرب الخليج.. يكثر الحديث حول الأسباب التي أدت إلى بقاء ديكتاتور مثل صدام حسين بالرغم من كل ظروف الهزيمة وشروط الاستسلام التي لحقت به. وعن الصيغة التي تضمن استمراره في زعامة حزب البعث الذي جر على الشعب العراقي ويلات حرب الخليج الأولى مع إيران.. ودمار حرب الخليج الثانية التي حررت الوطن.
والحديث عن توقيت سقوط النظام الحاكم في بغداد يجر معه صورة غامضة لمستقبل المنطقة بأسرها في حالة سقوط نظام بغداد.
بدايةً تقتضي الإشارة هنا إلى أن نظام الحكم في بغداد.. وحتى قبل أحداث الغزو.. والتي ساهمت في وضع تجاوزاته تحت المجهر.. لم يكن ليختلف كثيراً في ديكتاتوريته عن باقي أنظمة الحكم في الدول العربية.. وإن كان عنف النظام الدموي هو الذي جعله ملتصقاً أكثر بصفة الديكتاتورية وسط أنظمة لا تقل عنه ممارسة لها.. فالتعدي على حقوق الإنسان صفة شائعة وسائدة في الأنظمة العربية، وإن اختلفت درجات التعدي.
أما حريات الفكر والعقيدة والتفكير.. فكلها حريات مصادرة من قبل الأنظمة وإن تفاوتت درجات المصادرة أيضاً. بينما تفتقد كل الأنظمة العربية مبدأ تداول السلطة.. والذي يعد من الركائز الأساسية في أي نظام ديمقراطي.
لقد استطاع نظام الحكم في بغداد.. وبطريق غير مباشر.. أن يضفي شرعية أكثر على الأنظمة العربية الأخرى.. وبحيث أصبح أي نظام آخر.. ومهما بلغ حجم تجاوزاته.. يعد نظاماً مقبولاً إذا ما قورن بدموية وعنف نظام بغداد. وهنا تكمن خطورة مقارنة درجات العنف.. والقبول بأقلها عنفاً. علماً بأن أي إخلال بأي حق من حقوق الشعوب، التي كفلتها ومارستها الأنظمة الديمقراطية.. يعتبر عنفاً.. سواء كان شديد الوطأة أم خفيفها.. عنفاً جسدياً كان أم فكرياً.
لا نعدو الصواب إذا قلنا أن من أهم العوامل التي تضمن بقاء الأنظمة الديكتاتورية.. سواء نظام بغداد أم غيره.. هي في كونها أنظمة تتنازل عن رعاية مصالح شعوبها.. في سبيل رعاية وخدمة مصالح قوى وأنظمة أخرى. والتي تقوم هي الأخرى مقابل ذلك بضمان استمرار تلك الأنظمة والقول بشرعيتها وصلاحيتها. لذلك فإن أعتى الديكتاتوريات في العالم سقطت حين تخلى عنها حلفاؤها.. واستنفدت دورها.. فباتت عالة على أولئك الحلفاء. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.. فلقد سقط “دوفالييه” وفر من هاييتي حين تخلت عنه واشنطن.. وغادر “ماركوس” الفلبين.. حين أصبح وجوده يعني تهديداً للمصالح الأمريكية أكثر من كونه حماية لها. أما “بينوشيت” فقد تنازل عن تشيلي حين أدركت واشنطن أن ذلك هو الأسلوب الوحيد لامتصاص سخط الجماهير التشلية الغاضبة..
لقد أصبح للدور الأمريكي في حماية الديكتاتوريين.. ثم الإطاحة بهم.. سمعة أكبر من أن يخطئها متتبع لتلك الأحداث. وهو السبب وراء التفسير الذي يسوقه البعض الآن للتوصل إلى السر في بقاء صدام حسين بالرغم من كل الإدانات التي صدرت ضده.
فهذا البعض يرى أن كل الأحداث التي عصفت بالمنطقة منذ الحرب العراقية الإيرانية.. وحتى أحداث غزو الوطن.. يجمعها مخطط رئيس يرمي إلى ترويض هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم بأسرها.. وضمان الثروة النفطية وتدفقها. بل وتذهب بعض التفسيرات إلى أبعد من ذلك بقولها أن السبب وراء عدم سقوط صدام حسين.. كونه ضالعاً في هذا المخطط.. وهو تفسير وإن افتقد للبراهين.. وللمنطق بعض الشيء.. فإنه يبقى التفسير الأكثر رواجاً وراء السبب في بقاء هذا النظام. خاصة وأن أمريكا التي استطاعت أن تقتحم “بنما” وتلقي القبض على “نورييغا” لتقوم بمحاكمته على ترويجه المخدرات بين الشباب الأمريكي.. هي ذاتها أمريكا التي تقف “عاجزة” عن التعامل والإطاحة بصدام حسين!!!
قد لا يكون صدام حسين جزءاً من المخطط المقترح كتفسير لما يدور من أحداث.. إلا أن الواضح للعيان أن استمراره لم يصل بعد إلى تلك الدرجة من السوء التي تتطلب الإطاحة به، بل لا زال بالإمكان استثمار طموحاته الغبية وبما لا يخل بمصالح الدول الغربية، فجنود نظام بغداد تخترق بضعة كيلومترات من حدود الوطن.. فتتهافت دول الخليج لتوقيع صفقات السلاح بمليارات الدولارات.. تزأر طائراته في سمائنا.. فنستضيف المناورات العسكرية والجيوش. يتأزم الوضع في المنطقة المحظورة على العراق.. وتشرف العمليات العسكرية على البدء.. فيتجاهل الإعلام العالمي ويتناسى مئات الفلسطينيين المبعدين.. ومجازر المدنيين في البوسنة. تتحرك إيران قليلاً منذرة دول الخليج.. فيوجه التهديد إلى العراق.. وتصمت إيران!! بل وتتفجر العمليات العسكرية في مساء الثالث عشر من يناير.. ويستسلم العراق من جديد لغارات الحلفاء.. ويبقى صدام حسين وحده هو البعيد عن أهداف تلك الغارات!! فبحسب تصريح “مارلين فيتزووتر” المتحدث الرسمي باسم البيت الأبيض.. فإن غارات الحلفاء هذه لا تستهدف الإطاحة بنظام صدام حسين.. وإنما هدفها أساساً تلقين النظام في العراق درساً عن وجوب الانصياع التام للأوامر..
وتأكيداً على أن الرؤية الأمريكية للوضع في المنطقة لا زالت ثابتة بالرغم من التغيير في الإدارة الأمريكية.. وبالفعل فقد رضخ النظام العراقي وكعادته.. وبعد ساعات قليلة من بدء الهجوم.. رضخ لمطالب قوات التحالف.. وتعهد بعدم خرق أي من قرارات الأمم المتحدة.. وبما يهدد أمن دول المنطقة. على الرغم من أن إحساس دول المنطقة بالأمن فعلياً لا زال أمراً مستبعداً طالما استمر نظام صدام حسين على رأس حزب البعث قائماً في العراق. لقد وجه الغرب من خلال حرب الخليج الثانية وبزعامة الولايات المتحدة.. ثم مجدداً من خلال غارات التأديب التي شنتها قوات التحالف على العراق.. وجه رسالة واضحة وصريحة إلى كل دول العالم الثالث.. فيها تحذير واضح وصريح بشأن بناء قواها العسكرية.. والتفكير باستخدامها ضد المصالح الغربية والأمريكية. فنظام بغداد كان مصرحاً له من قبل الغرب بالتوسع في بناء قوة عسكرية جبارة قادرة على ردع إيران وإشغالها عن تصدير الثورة وزعزعة أمن المنطقة.. ومن ثم عدم التكهن بمصير الثروة النفطية. ولكن خروجه عن قواعد اللعبة بغزوه الكويت وضمها.. تطلب ترويضاً مدروساً لا يطيح بنظام صدام حسين.. وإنما يشله عن تحقيق طموحاته بالهيمنة على دول المنطقة وإذلال الغرب.. مع ضمان الإبقاء على قوات تكفي لحفظ الأمن داخل العراق.. وتتيح للغرب الفرصة لإيجاد البديل الذي يضمن ضبط الوضع في العراق على إيقاع المصالح الغربية. وحفظ الأمن أيضاً تطلب إخماد ثورة الشيعة في الجنوب والتي كان من الممكن أن تكون امتداداً لإيران يخلق من المشاكل أكثر مما يوجد من حلول. ويعيق أي محاولة للإبقاء على التوازنات السياسية المطلوبة في المنطقة. وهو ما عبرت عنه جريدة “الهيرالد ترييون” بتاريخ 18/1/1991 بقولها “أن النظرة الحكيمة للمصالح الأمريكية طويلة المدى في العالم العربي تستلزم الحرص في تعيين الأهداف وشن ضربات مدروسة بكل عناية”.
قد نكون في هذا الوطن.. من أكثر المستفيدين من الأسلوب الذي تم التعامل فيه مع كارثة الغزو وما تلاها من أحداث.. ولكننا يجب أن نكون أكثر موضوعية في فهم وقراءة ذلك الأسلوب من التعامل.. وتداعياته التي لم تتضح كلها بعد.. خاصة ما يتعلق منها بمستقبل العراق وبماهية البدائل الجذرية للنظام البعثي. فنحن كدول خليجية أغلبها صغير المساحة.. قليل السكان.. قصير الامتداد الزمني والتاريخي محاطة بدول كبيرة المساحة.. مكتظة السكان.. وعميقة التاريخ.. دول أهلكتها الحروب والمشاكل.. تتحين الفرص للهروب إلى الأمام بمشاكلها.. وتصدير مآزقها وقلاقلها.. فإن الفرصة للتأثر بتلك الدول ستبقى أكثر احتمالاً من التأثير فيها.. وإذا كنا بعد قلاقل الحرب العراقية الإيرانية.. وبعد كارثة الغزو.. قد تجاوزنا واستطعنا أن نتلافى التأثر بتلك الدول وبنظمها السياسية الحالية لكونها صيغاً غير مقبولة.. ومن ثم غير قابلة للاستمرار.. فهل نستطيع التكهن بمدى تأثرنا مستقبلاً بها؟.. خاصة في حال تغير الأنظمة السياسية القائمة فيها.. وقيام أنظمة ديمقراطية!! فدول الخليج التي استطاعت أن تؤمن تصدير الديكتاتورية والعنف الدموي الممارس في دول الجوار.. هل ستستطيع أن تضمن عدم تصغير الديمقراطية إذا ما هي سادت واستقرت في تلك الدول؟!! بمعنى آخر هل يمكن أن يكون العراق الديمقراطي أكثر تأثيراً على المجتمعات السياسية في منطقة الخليج من العراق الديكتاتوري؟!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى