معرض الكتاب.. والفرصة الضائعة

معرض الكتاب.. والفرصة الضائعة
لعلنا الآن وبعد زوال الكابوس.. أصبحنا أشد يقينا من أي وقت مضى بمدى حاجتنا للانفتاح على تطلعات وتوجهات العالم من حولنا.. وقد يخطئ أفحش الخطأ من يتوهم أن عودة الأرض تعني التقوقع داخلها.. والإنصات إلى صدى أصواتنا فقط.. وإنكار الكثير من العلاقات التي تربطنا بشعوب وثقافات في هذا العالم.. ريثما ننجز عملية البناء والإعمار.. فنحن جزء من وطن عربي كبير.. هو الآخر جزء من عالم أكبر.. وانتماؤنا الجغرافي لذلك الوطن أو العالم إنما هو ضرب واحد من الانتماء.. أما الضرب الآخر من الانتماء فهو امتدادنا الزمني ممثلاً في انتمائنا التاريخي والثقافي..
وبكوننا جزءاً من تاريخ عربي إسلامي تمتد جذوره إلى عقود طويلة من الزمن تملكني ذلك الشعور القوي بمدى حاجتنا، وبالذات في المرحلة الحالية، لترسيخ ذلك الانتماء الزمني وتأكيده.. حين اصطدمت بالمستوى المتواضع جداً لمعرض الكتاب الأخير.. والذي جاء توقيته في فترة نحن أحوج ما تكون لجذور ثابتة في الأرض تعيد إلينا توازننا.. نحن بحاجة لتأكيد أقوى لانتمائنا الثقافي بعد أن اهتز إيماننا ويقيننا الجغرافي إثر عبث الأخ الجار ومن سانده.
فمهما بلغ عمق الجرح.. فإننا سنبقى دوماً ممتلئين بثقافتنا العربية امتلاء قد لا نشعر فيه ولا نعيه في كل لحظة من لحظات حياتنا.. انتماؤنا لتلك المفردات العربية التي لا تعرف حدوداً سياسية.. ولا مراكز تفتيش.. يجعلنا نتفهم ونهضم مغزى الرواية المغربية دون الحاجة لهوامش تفسيرية.. والقصيدة السورية دون أن نعود إلى تاريخ الشعر.. والنكتة المصرية دون أن يذيلها أي تعليق.. نستمتع بكل تلك الثقافات متكلين على خلفية ثقافية تاريخية متأصلة في اللاوعي.. في أعماقنا.. ثابتة جذورها في وجداننا ما بقيت لها في دمائنا موارد غذاء وماء ورعاية.
تلك الخلفية الثقافية.. أو ذلك الانتماء الثقافي لخط زماني مشترك ومعلوم هو الذي ييسر لنا وبسهولة الاندماج في عالمنا العربي أكثر بكثير مما تيسره انتماءاتنا الجغرافية المكانية.. وهو الذي يسهل لنا التجول أحراراً في كافة أرجاء الوطن العربي دون أن نخشى بطش حواجز التفتيش، أو اعتراض نقاط تدقيق الهوية.. وهو انتماء لم يولد بين عشية وضحاها.. وإنما هو امتداد لتاريخ وثقافة موروثة مشتركة.. ساهمت كثيراً في توفيق وجهات النظر في الشؤون الحياتية العامة.. وفي تشابه مبادئ السلوك وأساسيات مبادئ الأخلاق.. فنحن نستطيع أن ننفعل وبسهولة.. وعلى أي أرض عربية.. تجاه مواقف معينة.. دون أن نصطدم بمفاهيم وعلاقات بشرية غريبة لم نألفها من قبل.. فنحن عرب بالمكان والزمان معاً.. وإذا كانت أحداث الكويت العاصفة.. قد جعلتنا نشكك بعروبة المكان.. وبعد أن أصطدمنا بقسوة وأكذوبة عروبة الجار.. فلا زال في قلبنا حياة نابضة لتلك الشحنة العقلية.. الملأى بالمشاعر.. التي تحملها مفرداتنا العربية.. والتي لولاها لما استطاع كاتب أن يعبر عن فكرة تراوده أو عن شعور يختلج في نفسه.. ودون حاجة أو جهد للإسهاب أو التطويل والشرح.. كل ذلك الكم من الإحساس والانتماء الثقافي.. لن يستطيع ألف طاغية أن يروضه أو أن يسلبه كينونته.. أو أن يقلل من شأنه في قلب أي فرد من أفراد هذا الوطن.
معرض الكتاب الأخير كان يمكن أن يكون تجسيداً لأسلوبنا الناضج.. وطريقنا الواعي لأهمية التأكيد على التزامنا وإيماننا بتلك الخلفية الثقافية.. كان يمكن أن يكون مجالاً متسعاً لحوار حضاري تضمنه وتفتح باب النقاش فيه كتب ودور نشر من كافة أرجاء الوطن العربي.. كان يمكن أن يصبح فرصتنا الأمثل لنثبت للعالم كافة أننا لا نخشى لهجة الحوار الفكري.. ولنثبت أيضاً أننا في السلم كذلك لا نخشى تناقض الرأي.. ولا اختلاف وجهات النظر.. أو لم نكن نحن الذين أثبتنا لأنفسنا أولاً وللعالم ثانياً أننا لا نخشى الحوار بالنار ولا نهاب لغة الحرب!!
معرض الكتاب المحاط بكافة أشكال الآليات الحربية التي خلفها جيش النظام المهزوم.. كان يمكن أن يتحول إلى رسالة بليغة لكل شعوب الوطن العربي.. تحكي لهم جريمة جيش النظام.. وتروي لهم إرادة وعزم شعب هذا الوطن.. وتؤكد لهم أن ما يوصف بالمواجهة الحضارية.. والإسهام الثقافي هو جزء لا يتجزأ من جهاد الكويت الحضارية.. والإسهام الثقافي هو جزء لا يتجزأ من جهاد الكويت العربية.. وسمة من سمات الكويت المحررة من عبودية الاحتلال.. وأن كويت السلم لا تهاب الحوار الفكري مع أي جانب من جوانب عالمنا العربي المعاصر.
إن هذا الوطن.. والذي أثبت صلابتة وتمسكه أمام تجربة من أقسى التجارب التي عصفت بتاريخ المنطقة الحديث.. يتعين عليه أن لا يقف موقف المنعزل أمام ما يمارسه ويطرحه الآخرون من فكر ورأي.. وعلى وجه الخصوص أولئك الذين يقاسمونه تاريخه الثقافي.. وامتداده الزمني.
وإنه لما يثير الشجن والأسف العميق أن نجد أنفسنا.. وفي هذه المرحلة المصيرية من تاريخ وطننا مضطرين إلى تأكيد أساسيات وبديهيات في مجال التطور الفكري والحضاري.. كنا قد اعتقدنا مسبقاً أنها قد ثبتت واستقرت في العقول.. ومن هذه البديهيات التي أصبحنا في حاجة إلى إعادة بنائها مع بناء حاضر ومستقبل وطننا.. أن النشاط والتبادل الثقافي ضرورة لتحقيق التواصل الفكري بيننا وبين سائر أمم الأرض.. وليس أمتنا العربية فقط! وهو أمل ننشده ونأمل تحقيقه في المستقبل المنظور.. لا سيما وأننا نعيش في عالم تتقافز خطواته ولا تسير في معارج التقدم.
ولعلَّ تجربتنا مع النظام العراقي أثبتت أن احتضانه لكثير من رواد الفكر العرب.. واهتمامه بدور الثقافة كان عاملاً مساعداً في تحييد وجهات نظر عديدة كان بالإمكان استقطابها وتسخيرها لتحريك الشارع العربي.. والذي كان لانغلاقنا عنه ثقافياً، الأثر الكبير في توجهاته تجاه القضية الكويتية.
إن دور الثقافة مستمر في بناء الحياة.. إن لم يكن دوراً أساسياً، وتفاعل الثقافات فيما بينها أمر حتمي.. حيث لا حدود جغرافية أو سياسية تستطيع أن تعيق هذا التفاعل.. سواء شئنا ذلك أم رفضناه. ولا يؤكد ويرسخ مسيرة شعب ما بقدر ما يرسخها إسهامها الثقافي.. والذي يتجدد كلما تجدد وتغير مسار التاريخ.
وتبقى إذاً مسؤولية الأجهزة الرسمية.. في رعاية تلك الجهود الثقافية والعلمية.. حتى يتم تحقيق أكبر قدر من الاستفادة.. وحتى لا تتحول معارض الكتب.. إلى أسواق قرطاسية.. وكتب في فنون الطهي وتحضير الطعام.. ودفاتر تلوين للصغار.
وأخيراً.. أوليس في تشبثنا بجذورنا الثقافية.. ترسيخ وتأكيد لأصولنا وانتماءاتنا الحضارية.. فبالكلمة والقلم أولاً.. أصبح الطريق سالكاً للحضارة الإسلامية.
