مصر التي في خاطري

مصر التي في خاطري
أثار تعليق للفنان الجميل محمد عبده أخيراً موجة من الجدل عبر وسائل التواصل الإلكتروني. الفنان محمد عبده علّق على تسمية مصر بأم الدنيا قائلاً: إذا كانت مصر أم الدنيا، فإن السعودية أبوها. بالطبع وكما اعتدنا من مرتادي وسائل التواصل فقد تفاوتت التعليقات بين متوافق مع ما قاله الفنان محمد عبده ومختلف، بالإضافة طبعاً إلى الأصوات النشاز التي تخرج كالعادة عن أي موضوع يُطرَح، حتى وإن كان عابراً وخفيفاً، لتدخل في مشاجرات ومشاحنات بعيدة كل البعد عن المادة المطروحة.
بلاد العرب كلها أوطاننا، وأهلها كلهم أهلنا، ولكل دولة عربية سمة تُميّزها عن الأخرى، وفي ذلك ما قد يكون ميزة حميدة، حيث تحتضن القارة العربية كل السمات والألوان والأدوار، فكما أن المملكة العربية السعودية حاضنة للحرمين الشريفين وقائمة على خدمة زوار الرحمن، يأتي اليمن ليحتل مرتبة أكثر بلاد العرب تحضّراً في عصر ما قبل الإسلام، حيث قامت فيه دول وممالك متقدمة ومتطورة زراعياً وتجارياً، أما بلاد الشام فقد وصفها القرآن بالأرض المباركة حيث قال: ﵟسُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١ﵞ ﵝالإِسۡرَاء : ﵑﵜ (F)، ثم يأتي العراق أرض الكثير من الأنبياء من إبراهيم إلى هود وآدم ونوح وذي الكفل، ومهد الحضارات الأولى من آشور إلى سومر وبابل. وهكذا يمتد الحال في باقي الدول العربية لِتَتَميّز مصر هنا بكونها الأم الحاضنة تاريخياً وحاضراً، مصر التي سُمّيَت أم الدنيا نسبة للسيدة هاجر زوجة إبراهيم، حيث وُلِدَ سيدنا إبراهيم في العراق ثم انتقل وعاش بين مصر والشام، وتزوج السيدة هاجر التي كانت من مصر، وبعدها انتقل إلى الجزيرة العربية وتم رفع قواعد البيت العتيق، لهذا سميت مصر أم الدنيا كشيء تقليدي ورمزي وديني منذ ذلك الحين، باعتبار السيدة هاجر أم أنبياء الله، وأم سيدنا إسماعيل وأم العرب من مصر.
يبقى لمصر شكلها الفريد، ودورها الإقليمي المهم، وتأثيرها الثقافي والفكري والأدبي والفني في العالم العربي بأكمله، فنحن جميعاً نجيد اللهجة المصرية ونتابع الإنتاج الفني المصري، ونقرأ الروايات والصحف والإصدارات المصرية، نتابع ما يحدث في مصر ونستشف على ضوئه تداعيات الحدَث على سائر الدول العربية. تقرأ صحيفة كالأهرام فتَجد نفسك أمام معلّقات أدبية وليس مجرد مقالات، ناهيك عن التحليلات السياسية الثرية والعميقة، تقف في أي شارع أو حارة في مصر فترى معالم العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه تتراقص أمامك.
تتابع أي فضائية مصرية فتحملك إلى كل القضايا والهموم والأفراح العربية. تنظر بمرآة التاريخ فتجد مساراً طويلاً ممتداً إلى ما قبل العوائل والأسر الفرعونية بمئات السنين.
مصر هي الرحم الذي ولّدَ أحداثاً تاريخية ومعاصرة نعيشها جميعاً في تفاصيل حياتنا اليومية، وإذا كان دورها الإقليمي قد تفاوت في مراحل تاريخية محددة، فإن أهميتها الريادية لاتزال صامدة، فقد عَبَرَت مصر بعدة أدوار مختلفة، من دورها التفاعلي كمصر الناصرية في الفترة (1952 – 1970)، إلى دورها الانعزالي في حقبة السادات، ثم فترة سيطرة الأخوان المسلمين التي شهدت فيها مصر أزمات سياسية وفكرية وعقائدية مركبة.
البعض يتحدث اليوم عن تراجع دور مصر إقليمياً، لكن في المقابل هناك من يرى أن أمومة مصر ليست في دورها السياسي وحسب، وإنما في مذاقها الفريد الذي لا تشبهها فيه دولة أخرى. وهذا الدور الذي بدأت تكنولوجيا الاتصالات وبكل أسف بتشويهه سواء عمداً أو جهلاً، حتى اختزل على سبيل المثال بعض شعوب الخليج إرث مصر ودورها التاريخي في مشكلات جانبية كالعمالة السائبة التي أصبح البعض يرى فيها انعكاساً وصورة مغلوطة لمصر اليوم، بالرغم من كل الشواهد التي تدحض ذلك، ولا شك بأن مثل هذا الفهم الخاطئ من البعض تجاه شعوب أو دول عربية شقيقة يأتي كضريبة مباشرة للغلو الذي تمارسه شبكات التواصل الإلكتروني، وبشكل حوّل التعصب والعدوانية تجاه الآخر إلى ظاهرة خطرة قد تنسف مستقبلاً كل ما بناه الإنسان العربي من شبكات تواصل وعلاقات وتبادل ثقافي وتناغم فني وفكري وأدبي.
بلاد العرب كلها أوطاننا، وأهلها كلهم أهلنا، ومصيرنا مشترك تفرضه الجغرافيا، ويرسّخه التاريخ، ولكن يبقى لمصر مذاق فريد، مصر التي في خاطري وفي فمي، أحبها من كل روحي ودمي، تحيا لنا عزيزة في الأمم، نباتها ما أينعه، ونيلها ما أبدعه، هكذا وصفها الشاعر أحمد رامي.
