ملفات ساخنة

لو عكّا بتخاف من الموج.. ما سكنت على الشطّ

لو عكّا بتخاف من الموج.. ما سكنت على الشطّ

يستعرض رئيس الوزراء الأسبق للكيان الصهيوني اسحق رابين، في مذكراته، حواراً دار بينه وبين بن غوريون في يوليو عام 1948، حين كان رابين ضابطاً في الجيش الإسرائيلي، حول مصير خمسين ألفاً من الفلسطينيين في قرى اللد والرملة، فيقول: إن بن غوريون حينها أشار بيده، بمعنى أطردهم جميعاً. يقول رابين: “أدركت منذ ذلك الوقت أنه من الضرورة طرد الفلسطينيين”.
اختلفت الوسائل وبقيت الغايات واحدة من مشروع هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية السياسية الحديثة، التي نصّت على تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين بهدف تشكيل دولة يهودية، إلى خطة “دالت” التي وضعتها منظمة الهاجاناه في فلسطين بين عام 1947 – 1948، التي كان الهدف من ورائها تأسيس دولة يهودية في فلسطين عبر السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، وطرد أكبر عدد من الفلسطينيين، وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض على جميع الأطراف، وبين هذه المشاريع التطهيرية العرقية استمر الكيان الصهيوني في استخدام كل الطرق، بهدف تهجير الفلسطينيين عن طريق القتل الجماعي والتهجير القسري، وبصورة تُمكّن إسرائيل من أن تمحو من الذاكرة كل ما يثبت الوجود الجسدي والتاريخي والثقافي للشعب الفلسطيني، واستمرت سياسة التطهير العرقي بأشكالها المختلفة، حتى بعد حرب 1967.
اليوم في حرب غزة، يشهد العالم نموذجاً جديداً من عملية التطهير العرقي هذه، نموذجاً بشعاً يعيدنا إلى مجازر دير ياسين ومذبحة بلدة الشيخ، والطنطورة، ومذبحة خان يونس وصبرا وشاتيلا، والقائمة تطول عبر التاريخ، جميعها مذابح كانت تهدف إلى الغاية نفسها، تصفية ومحو الشعب الفلسطيني.
من سوء حظ الكيان الصهيوني أن عدوه في معادلة الصراع هنا هو الشعب الفلسطيني، الذي عُرِفَ عنه تمسّكه بأصله وتراثه وأرضه وبياراته وترابه وعقيدته، حتى انعكس ذلك على كل تفاصيل الحياة داخل منظومة الأسرة الفلسطينية، سواء كانت فوق أرضها أو في المهجر، بحيث طال مثل هذا اليقين أدق التفاصيل، وبما في ذلك الأمثلة الشعبية المتداوَلَة، والتي تعكس حجم مثل هذا الإصرار والتمسّك والصمود، أحد هذه الأمثلة يقول: “لو عكّا بتخاف من الموج.. ما سكنت على الشط”، وهو مثل شعبي يعكس مدى صمود أهل عكّا وإصرارهم على استرداد أراضيهم. كما يُعبّر مَثَل فلسطيني آخر عن الإصرار على مواجهة المحتل ومحاربته حتى استرداد الأرض، فيقول: “الغريب يروح بس بده طولة روح”، في إشارة هنا إلى الغريب المحتل لأرضهم، أما مقولة “أربط أصبعك مليح لا يدمي ولا يقيح”، فهي تشير إلى أن الإنسان عندما يكون لديه هدف يفعل كل ما بوسعه، ويأخذ بالأسباب حتى يصل، مما يعكس هنا مدى تمسّك الشعب الفلسطيني بالأمل وإصراره على هدفه، وهو استرداد أرضه.
عِبْر أكثر من 75 عاماً كان النضال عسكرياً وسياسياً وثقافياً وعقائدياً، غاب معظم العرب فيه في أكثر من مرحلة وأكثر من صورة، وهو ما دفع فلسطينية مكلومة، ترثي 40 شهيداً من عائلتها في الحرب الأخيرة، إلى إطلاق صرخة غاب صداها في سماء الصمت العربي، تتساءل فيها: “أين العرب؟.. وأين العالم؟”.
لعل أكثر ما يؤلم الكيان الصهيوني ويُرهِبه هو النضال الثقافي، الذي دائماً ما كان يؤذيه ويوجعه ربما أكثر من النضال العسكري، لذلك حرصوا على اغتيال ناجي العلي قبل ياسر عرفات، وغسان كنفاني ووائل زعيتر وغيرهم، يُرعبهم شاعر المقاومة الفلسطينية راشد حسين، وشعر محمود درويش وسميح القاسم، بقدر ما تزعجهم قذائف القسام. هم يخشون توافد المُصلّين على ساحة المسجد الأقصى، ربما بقدر خشيتهم من الرشقات الصاروخية على تل أبيب.
قد لا نبالغ في القول إذا ما اعتبرنا حفاظ الفلسطينيين على هويتهم الثقافية هو من أسلحة المقاومة الفعّالة، من الفنون إلى التاريخ والأدب والرقص والشعر والمسرح واللغة والثقافة والأكل، كلها تم استخدامها وبنجاح كسلاح فعّال واستراتيجية للدفاع عن الوجود الفلسطيني، ومواجهة أهداف الكيان الصهيوني الرامية إلى طمس الهوية.
وبحيث أصبح لدى الإسرائيليين هوس ورعب من انتماء حتى طبق الفلافل للفلسطينيين.
هو نضال وجودي إذاً، اتخذ كل الأشكال، وأثبت خلاله الفلسطينيون، وعِبْر كل هذه السنوات، أنهم قد انتصروا وحققوا البقاء والوجود حتى في ظل آلة الكيان الصهيوني العبثية والمجرمة.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى