شئون عربية

لا تنمية ولا صناعة بلا حرية مطلقة

لا تنمية ولا صناعة بلا حرية مطلقة

تكاد لا تخلو جميع خطط التنمية في العالم العربي من ترديد وتكرار لجملة “ضرورة التحوّل إلى الصناعة”، مع ما يصاحب تلك الجملة من طروحات نظرية لكيفية تحويل دولنا إلى دول صناعية منتجة فعلياً.
الثورة الصناعية في أوروبا لم تبدأ بقرار سياسي أو اقتصادي، وإنما بفكر حر استلهمه “جيمس واط” مخترع المحرّك الكهربائي من مناخ الحرية، الذي مكّنه هو وزميله الفيزيائي “جوزيف بلاك” من العمل بحرية للاستفادة من البخار كقوة محرّكة.
لم نسمع أن “كرومويل”، وهو قائد عسكري بريطاني، ولا الملك هنري ملك إنكلترا ولورد آيرلندا، ولا “الملك أدوارد الرابع” ملك إنكلترا، لم نسمع أن هؤلاء أصدروا أوامر بأن تتحول بريطانيا إلى دولة صناعية، وإنما جاءت النهضة الصناعية إلى بريطانيا كناتج طبيعي لتحسّن المستوى المعيشي لسكان الأرياف، وبالتالي زيادة وعيهم، ومعه إدراكهم لضرورة الاستعانة بمعدات زراعية متطورة، وآلات حديثة، إلى أن ظهرت آلة البخار في القرن التاسع عشر، ثم الكهرباء في القرن العشرين، فتم توظيف هذين الاختراعين لتشغيل محركات أكثر ومن ثم بواخر وقاطرات، وهكذا.
الثورة الصناعية في أوروبا إذن بدأت بمجموعة أفكار واختراعات علمية تم توظيفها لتشغيل مصانع، وصناعة صلب وسلاح، وآلات زراعية، ووسائل مواصلات أدت إلى تعزيز التجارة الخارجية، ومن ثم التواصل مع ثقافات أخرى، وتنظيم للمجتمع قائم على وضع حقوق للعمال، ولأصحاب العمل، ولعلاقة الأطراف العاملة، وحقوقها وواجباتها، ودساتير تضع أطراً للعلاقات السياسية والاقتصادية وهكذا.
في العالم العربي، فشل حتى الآن مثل هذا التحوّل نحو مجتمعات صناعية منتجة، لأنه وببساطة جاءت العملية عكسية، أي أن التحوّل نحو الصناعة في العالم العربي غالباً ما يصدر من أعلى الهرم، إما بقرار سياسي، أو بمقترح برلماني. أو بناء على دراسات يقدمها مجلس تخطيط أو مشروع تنمية. وتجارب العالم العربي المتواضعة خير شاهد، فمصر استوردت التقنية والمعرفة والمواد من روسيا، وتم تجميعها في مصر، وعلى الرغم من مرور عدة عقود على التجربة المصرية فإنها لا تزال في طور النشأة ولم تتطور، فالشروط التي تحوّلت بفعلها أوروبا من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، غابت من مصر ومن دول عربية أخرى سعت لمثل هذا التحوّل، فالهجرة باتجاه المدينة خروجاً من الأرياف، لم تُطلق المبادرة كما في أوروبا لأنها أساساً لم تحوّل الفكر النظري إلى فكر عملي منتج، ولم تشهد المجتمعات العربية صعوداً في الفكر الحر الذي يولّد الابتكار والمبادرة والنظرية العملية، وهو فكر لا يمكن أن يتّقد إلا بتوافر مناخ حر يسوده الإبداع والتجارب والمبادرة الفردية الحرة من قيود التراث والعادات والمألوف من التقاليد والنظم الاجتماعية.
المجتمعات العربية الراهنة هي نتاج لتعليم قائم على التلقين والحفظ والتكرار، ويفتقد المعطيات التي تعزّز المعرفة والعلوم وحرية الفكر والرأي والانضباط والدقة في العمل واستثمار الوقت واحترامه.
الثورة الصناعية في أوروبا إذن لم تأتِ بناء على قرار أو رغبة سامية، وإنما جاءت كنتيجة مباشرة لحراك ثقافي وأدبي وعلمي اجتاح أوروبا منذ القرن السادس عشر – بداية عصر النهضة – الذي دشّنه فصل الكنيسة عن الدولة، ومن ثم احتلال الفنانين والمفكرين والفلاسفة والمبدعين والموسيقيين والأدباء المشهد في أوروبا، التي كانت تتجه وبثقة نحو بناء مجتمع صناعي منتج فيما بعد.
لا يعني ما ذكرت أن العالم العربي يفتقر إلى العقول، بل قد يكون العكس صحيحاً، فهنالك رواد في العلم والطب والتكنولوجيا خرجوا من عواصم عربية، لكنهم أبدعوا في مناخ حر، وفي ظل إدارة جيدة للموارد البشرية، لذلك نتمنى نحن كمواطنين ألا تُذكّرنا حكوماتنا بقصورنا عن التحول الصناعي والعلمي، فالأسباب إدارية وسياسية وليست جينية. لذلك على العرب أولاً أن يفتحوا فضاء الحريات، وألا تعمل الأنظمة على إقصاء الطرح المغاير لإرادة السلطة، عندها يكون التحول نحو الصناعة مساراً طبيعياً نابعاً من قاع الهرم وليس من رأسه.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى