شئون دولية

كلينتون والانتصار السهل

“كلينتون… والانتصار السهل”

عاد التساؤل عن حقيقة النظام العالمي الجديد يطرح نفسه وبشدة بعد الضربة الجوية التي قادتها مقاتلات أمريكية تساندها قوات من الأمم المتحدة.. ضد مخازن الأسلحة في مقاديشو.. في عملية تأديب للجنرال “عيديد”.. الذي خرج عن القوانين الدولية.. أو كما وصف الرئيس الأمريكي “كلينتون” الدور الذي اضطلع به الجنود الأمريكيون في العملية وبأنهم “وجهّوا ضربة إلى الخارجين على القانون والقتلة”!!
قد نكون في هذا الوطن من أكثر المعنيين بهذه العملية العسكرية.. فبالإضافة إلى كوننا أولى التجارب لفعالية وحقيقة النظام العالمي الجديد.. فإن القوات الأمريكية والتي شاركت في قصف الصومال.. كانت تقوم بتدريبات ومناورات مشتركة.. تقتضيها معاهدة الدفاع الموقعة مع الولايات المتحدة.. وبحيث قطعت تلك القوات تدريباتها وتوجهت إلى سفنها بحسب الأوامر المعطاة.. لتتوجه إلى الصومال!! ولعلّ في هذه التجربة فرصة كبيرة لاختبار مدى فاعلية القوات أو (القواعد) الأمريكية في المنطقة.. ومدى سرعتها في الاستجابة للأحداث الدائرة من حولنا. وهي بذلك تطرح سؤالاً ملحاً.. عن حقيقة الدور الذي ستلعبه في المستقبل تلك القوات المتواجدة في الوطن بحكم الاتفاقيات الأمنية.. وعما إذا كانت عملية مقاديشو هي أولى العمليات.. وعن مدى نجاحها في بعث رسالة صريحة وواضحة إلى دول المنطقة عن مدى فاعليتها.. وسرعة تحركها.
عملية “مقاديشو” أعادت إلى الأذهان العملية الجوية التي تلقاها العراق في يناير الماضي.. والتي كانت محط انتقاد من قبل دول كثيرة.. إلى درجة أنها هددت بشق التحالف الذي صمد في حرب تحرير الوطن.
فعلى الرغم من تغير الأسماء في كلا العمليتين.. إلا أن الهدف بقي واحداً.. وهو تأكيد سيادة الولايات المتحدة.. فالضربة الجوية التي أرسلت إلى العراق في يناير لم تضع ضمن أهدافها إنهاء “صدام حسين”.. بالرغم من أنه هو الذي حرّك صواريخه آنذاك وأثار الأزمة.. إلا أن الناطق الرسمي للبيت الأبيض في ذلك الحين “مارلين فيتزووتر” يصرح بأن إنهاء رئيس النظام العراقي ليس من شأن الرئيس الأمريكي آنذاك “جورج بوش”.. وهو نفس التبرير الذي يواجهنا به “جوناثان هاو” مبعوث الأمم المتحدة في الصومال.. حيث يصرح بأنه لم يتلق أوامر من مجلس الأمن لاعتقال الجنرال “عيديد”؟! لذا فقد سقط القتلى والجرحى في الصومال.. وذلك من أجل مصداقية مهمة الأمم المتحدة لحفظ السلام في الصومال.. وفي شتى أنحاء العالم!! حتى وإن لم تحقق الضربة.. أهدافها التي أعلن عنها في البداية.. وهي إنهاء سيطرة.. وعنف الجنرال “عيديد”.. وتمرده على الشرعية الدولية.
إن توقيت الضربة الجوية الموجهة إلى الصومال.. لا يثير قلق العالم عن حقيقة عدالة النظام العالمي الجديد.. وحسب، وإنما أصبح يثير مخاوف أخرى تكمن في حقيقة أبعاد هذه الضربة.. وتداعياتها المستقبلية.. فبخلاف القلق الدولي المتزايد من إخفاق الولايات المتحدة في تحقيق عدالتها والتي جعلتها في قمة أولويات نظامها العالمي الجديد.. خاصة تجاه تفاقم الصراع في يوغسلافيا السابقة.. ومجازر الصرب في البوسنة.. فإن في واقع التجربة السابقة مع نظام بغداد.. ما يؤكد تلك الشكوك.. وحيث يرى البعض.. ومنهم من قاد التحالف الذي قام ضد نظام بغداد.. يرون أن مهمة التحالف في تحرير الكويت قد تجاوزت أهدافها إلى أهداف أخرى شملت ترتيب أوضاع المنطقة بأكملها.. بما يتفق والصالح الأمريكي على وجه الخصوص.. وقد ظهر ذلك جلياً وواضحاً في التنازع بين الشركات الأمريكية والبريطانية في إعادة إعمار الوطن.. وهو الآن يعود من خلال التنازع في التحضير لإعادة إعمار العراق. إضافة إلى أهداف أخرى تتعلق بقضية الصراع العربي الإسرائيلي.. وقد ساهمت الضربات الجوية الموجهة إلى العراق في يناير الماضي.. في التأكيد على ذلك التفسير.. خاصة وأنها لم تنه الوضع المأساوي في العراق.. وإنما ساهمت في تدعيم موقف “صدام حسين” الداخلي.. على كونه (الزعيم) المعارض لما تراه دول عربية كثيرة كمؤامرة أمريكية غربية.
لقد جاء تمرد الجنرال “عيديد” على أوامر النظام العالمي الجديد.. والشرعية الدولية.. ليشكل مخرجاً يستمد منه الرئيس الأمريكي “كلينتون” بعض العون لتخفيف نبرة التذمر والتي أصبحت تتزايد تجاه عجزه أمام تحديات كثيرة لمصداقية الموقف الأمريكي تجاه القضايا الدولية المتأزمة.. فالضربة الجوية “لمقاديشو”.. وإن كانت متواضعة النجاح.. إلا أنها تعيد بعض ما فقده النظام الدولي الجديد من مصداقية.. سواء جاءت في تدهور الوضع في البوسنة.. أو في استمرار نظام بغداد على البقاء. فمحاكمة مجرمي الحروب لن تكون وعوداً فقط.. وإنما ستتحقق بمطاردة ومحاكمة الجنرال “عيديد” بتهمة “التآمر لشن هجمات مدبرة مسبقاً ضد قوات الأمم المتحدة.. والتحريض على العنف.. وارتكاب جرائم بحق الإنسانية” وكما ورد في تصريح المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصومال الأدميرال “جوناثان هاو“.
لقد كان تحرير الوطن.. بارقة أمل لشعوب ودول كثيرة.. بأن زمن الانتهاكات والعنف قد ولّى إلى غير رجعة.. وذلك بالتحالف الذي شهده العالم تجاه ظاهرة العنف والاحتلال.. إلا أن تجاوز كل الانتهاكات الصارخة والقائمة الآن في عالمنا.. واختزالها في عملية تأديب لشخص خرج على النظام والقانون.. هي ردمً وقبرً لكل تلك الآمال التي بنيت إبان الاستعداد لعملية تحرير الوطن.. ولكنها السياسة القبيحة.. وليست العدالة هي التي توجه مسار نظامنا العالمي الجديد.. والمصالح البحتة والشرهة.. وليس الدفاع عن إنسانية البشر.. هي ما يتوج السياسة الدولية.. فالمنطق البشري والإنساني يأبى أن يدفع مئات من الأشخاص أرواحهم وأمنهم.. وتتعطل المعونات عن آلاف مؤلفة من الأطفال.. والنساء.. والشيوخ..
في سبيل التأكيد على مصداقية سياسة دولة ما.. أو من أجل تحقيق انتصار سهل يسير.. فوق جثث الأموات والقتلى!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى