فَلْتُطَبّق الشريعة.. لكن ليس من دون عمر

فَلْتُطَبّق الشريعة.. لكن ليس من دون عمر
مرة أخرى يعود بعض نواب الإسلام السياسي إلى الدعوة إلى تعديل المادة 79 من الدستور، بحجة الحفاظ على الهوية الإسلامية للمجتمع الكويتي، بأن لا يصدر قانون إلا إذا أقرّه مجلس الأمة، ويكون متوافقاً مع الشريعة الإسلامية.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان في كل مرة يتم فيها طرح مسألة تطبيق الشريعة هو: عن أي شريعة يتكلمون اليوم؟ وبأي شريعة يطالبون؟ أليس المجتمع الكويتي أساساً قائم على الشريعة الإسلامية في معظم قوانينه وأحكامه؟ فالزواج والطلاق والإرث، وقوانين ممارسة الصلاة والزكاة والصوم والحج، كلها تستند إلى الشريعة الإسلامية، وهو نهج تتبعه كل الدول الإسلامية وليست الكويت وحدها، فهل يعني ذلك أن النواب المتقدمين بمطالب تعديل المادة 79 من الدستور يريدون إضافة قَطْع الأيدي والأرجل والرجم والحرابة والجَلد حتى يكتمل تطبيق الشريعة؟ المادة 79 من الدستور تنص على الآتي: “لا يصدر قانون إلا إذا أقرّه مجلس الأمة وصدّق عليه الأمير”، وهي المادة التي تَضمَن مدنية الدولة بشكل معقول، وحتى لا تنحرف كفة العدالة في إصدار القوانين لمصلحة فئة دون أخرى أو طائفة دون غيرها وهكذا.
لقد رسّخ الدستور الكويتي مدنية الدولة من دون الإخلال بمبدأ الشريعة الإسلامية كدين الدولة الرسمي، ويعلم الجميع جيداً، بمن فيهم نواب الإسلام السياسي، أن المُطالبة بتعديل المادتين الثانية والـ79 من الدستور ما جاءت إلا لتأمين أهداف سياسية وحزبية دينية ولضمان أصوات انتخابية، وإثارة المجتمع والرأي العام بقضايا تحمل من النفاق السياسي أكثر بكثير مما تحمله من روح الإصلاح، سواء كان ذلك مدنياً أو عقائدياً.
عن أي شريعة يتحدثون هنا؟ فالشريعة ليست واحدة، وهو ما أشار إليه الشيخ الدكتور مصطفى راشد، أستاذ الشريعة الإسلامية، في أحد تصريحاته بهذا الصدد، حيث قال ما معناه إن هنالك اختلافات في الرؤى والتفسيرات شَهدها الإسلام منذ وفاة الرسول c وأنها أخذت تكبر وتتّسع فقسّمت المسلمين إلى سنة وشيعة، ثم إلى أحمدية ودرزية وبهائية وغيرها، وانقسمت كل فرقة من هؤلاء إلى عشرات، بل مئات الفرق أحياناً، لكل منها رؤيتها وشريعتها ومذهبها، لذلك يوجّه الشيخ الدكتور سؤاله إلى من ينادي بتطبيق الشريعة: “أي شريعة تقصد؟ هل هي التي تنادي بها جماعتك، وترى أنت أنها الأصح والأحق، وأنها الفرقة الوحيدة الناجية من النار؟ لذا فإن كان كذلك، فإن كل فرد يرى في نفسه وجماعته ما تراه أنت في نفسك وجماعتك، ومن ذا الذي يستطيع أن يُقرّر أن هذا هو الأحق؟”(انتهى).
الخلاف حول أحكام الشريعة بدأ في سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة الرسول c مباشرة، السقيفة التي شَهِدت أول انقسام في الإسلام في قضايا التشريع، وذلك بين الأنصار من الأوس والخزرج وبين المهاجرين للتشاور بشأن بيعة أمير للمسلمين، ثم أتت معركة صفين بين علي بن أبي طالب من جهة، ومعاوية بن أبي سفيان من جهة أخرى، التي انتهت بالاتفاق على التحكيم، بعد أن رَفَع أنصار معاوية المصاحف على أسنّة الرماح، إشارة إلى ضرورة التحاكم على كتاب الله، ليَرفَع الخوارج فيما بعد شعارهم الشهير: “لا حُكم إلا حكم الله”، وهو الشعار الذي قال عنه علي بن أبي طالب حينها: “كلمة حق أُريدَ بها باطل”، وليستمر بعدها خلاف المسلمين حول الشريعة منذ ذلك الزمان إلى يومنا الحاضر.
لقد أتى الإسلام، كما الأديان الأخرى، رافعاً لواء المساواة والعدالة والحرية والإخاء والتسامح والمحبة، ولم نسمع من دعاة تطبيق الشريعة دعوة لإحياء مثل هذه المبادئ السامية، ولم نرَ منهم دعوة لتحريم أكل مال السحت أو الفساد بالمسمى الحديث، ولا إشارة إلى ضرورة المساواة بين الناس، بل إن شريحة كبيرة من القائمين على تيارات الإسلام السياسي يتفنّنون في ترسيخ مظاهر اللامساواة، ومثال على ذلك ما يحدث في مواسم الحج، التي أصبحت مجالاً للتنافس المالي، وبشكل مُسرف ومُتناقض مع مغزى وحكمة الحج، ومع ذلك لم نسمع منهم أن ما يحدث في أغلب حملات الحج يتعارض مع شريعة المساواة كأسنان المشط في الحج، لأن في المسألة هنا كسباً دنيوياً مغرياً.
الأمثلة من حولنا بشأن تطبيق الشريعة وفقاً للمنهج السياسي والفكر الذي ساد العالم الإسلامي منذ وفاة النبي c وحتى اليوم، كلها أمثلة غير مشجّعة، بل على العكس فقد أفرزت أغلب تلك التجارب دولاً فاشلة، ليس بسبب الإسلام قطعاً، وإنما بسبب من يرفع لواء الشريعة، كما رفعه معاوية في معركة صفين.
أعيدوا إلى العالم الإسلامي رجاحة أبوبكر وعدالة عمر، وحنكة عثمان، وحكمة علي، ثم نادوا من بعد ذلك بتطبيق الشريعة، لكن أن تتحدثوا اليوم عن تطبيق شريعة “القاعدة”، أو “داعش”، أو “طالبان”، أو “جبهة النصرة”، فهو أمر ولا شك مرفوض حتى من دون أن تكون هنالك دساتير.
الكويت ووفقاً للمادة 79 هي دولة مدنية، يتولى السلطة التشريعية فيها الأمير ومجلس الأمة، وتبقى الاجتهادات فيها متاحة وفقاً للمادة 35 من الدستور، والتي تنص على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة القيام بشعائر الأديان طبقاً للعادات المرعيّة، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب.
ولعل الحرية الشخصية التي كفلتها المادة 30 من الدستور كفيلة بالرد على العشرين نائباً المحترمين.
