فقاعة أم هارون

فقاعة أم هارون
على الرغم من تواضع حبكته الدرامية فإن مسلسل “أم هارون” استطاع أن يستقطب كل هذه الأقلام السياسية والنقدية عبر العالم العربي، أغلبها عبر عن استيائه لعرض مثل هذا المسلسل الذي يشير إلى مسألة التواجد اليهودي في الجزيرة العربية، حيث رأى فيها هؤلاء دعوة صريحة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد ضاعف من هذا الاستياء احتفاء إسرائيل بالمسلسل حتى قبل أن يُعرَض، حتى إن المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي أطلق تغريدات رحب عبرها بهذا المسلسل وبكونه يناقش حال اليهود في الجزيرة ولأول مرة في عمل عربي، أو خليجي بالتحديد.
كنا أطفالاً، حين بدأ تلفزيون الكويت بعد حرب 1967، في بث برنامج بعنوان “اعرف عدوك”، وذلك في تحول كبير من الإعلام آنذاك باتجاه تعريف الناس بالعدو بدلاً من تجاهل وجوده أو التعتيم على أخباره، ومع ذلك لم تؤدِ تلك “المعرفة” بالعدو إلى أي اختراق لقناعاتنا الراسخة تجاه الاحتلال الإسرائيلي الذي بقي في وعينا كمغتصب لحق الفلسطينيين في الأرض والتاريخ والزيتون وكل الحقوق الأخرى.
لا شك في أن مسألة التطبيع تشكل دائماً هدفاً استراتيجياً لإسرائيل، فبالنسبة لها كان ولا يزال أمر اندماجها في محيطها قضية وجود، فهي ككيان دخيل على المنطقة بقيت معزولة ثقافياً واجتماعياً وفكرياً، وعلى الرغم مما حققته من انتصارات عسكرية ضد جيرانها، إلا أن مسألة عزلتها ورفض توطينها ثقافياً بقيت متأصلة في وعي شعبها، ولم تسعفها كل اتفاقيات السلام التي وقعتها بعض الدول العربية مع الكيان الإسرائيلي، للخروج من دوامة الرفض العربي الراسخ والصامد تجاه كل محاولات فك العزلة عنها.
منذ كامب ديفيد وما أعقبها من لقاءات واتفاقيات بعضها علني، وبعضها الآخر سري، لم تتجاوز العلاقات الإسرائيلية – العربية خانة الأنظمة السياسية، بينما فشلت في الحضور على المستوى الشعبي، فلا عجب هنا إذا ما شهدنا حرص الكيان الإسرائيلي على إقحام ثقافته في الثقافة العربية طمعاً في قبول أوسع.
ترحيب إسرائيل بأي مبادرة عربية على المستوى الشعبي أمر مفهوم، فهي تدرك جيداً أن اندماجها، وتقبلها ككيان لن يكون من خلال اتفاقيات تربطها بأنظمة سياسية عربية مختلفة التوجهات، وإنما يكون الاندماج بتوغلها ثقافياً في الوعي العربي، وهو أمر لا يمكن أن يحققه مسلسل درامي يستعرض بعض الأحداث التاريخية في المنطقة والتي حدثت قبل قيام الكيان الإسرائيلي أصلاً بعقود.
مسلسل “أم هارون” أصبح كالحلبة التي يتصارع حولها دعاة التطبيع مع رافضيه، وربما يكون كمسلسل قد أُعطي بذلك حجماً أكبر من حجمه الدرامي المتواضع، وليخرج من مساحة الدراما إلى خانة الصراع السياسي والفكري.
ليس في المسلسل حبكة درامية جيدة أساساً، ولا يمكن أن يشكل تدويناً معتمداً للديموغرافيا السائدة في المنطقة، لكنه جاء كالحجر الذي حرك المياه المتعكرة في جدلية العلاقات الإسرائيلية العربية، ليس لكونه يحمل دعوة للتطبيع، وإنما لأن قضية التطبيع أصبحت تؤججها اليوم بعض المحاولات العربية للتقرب من الكيان الصهيوني، لكن من المؤكد أن التعامل مع قضية التطبيع سواء من خلال ردود الفعل على مسلسل “أم هارون” أو في غير مواقع، ما زالت مصرة وبقوة أن لا تطبيع سياسياً كان أم ثقافياً مقبل، طالما بقيت العنجهية الإسرائيلية هي من يقود أوركسترا التطبيع.
