شفرة دافنشي

شفرة دافنشي
يكفي أن تكون الرواية ممنوعة في لبنان لتثير الفضول لدى العديد من القراء العرب، فما بالك إذا ما كانت تلك الرواية مشوقة؟
رواية “شفرة دافنشي” للمؤلف دان براون، وكما وصفتها “نيويورك تايمز” لا تقل في تشويقها عن سلسلة روايات “هاري بوتر” الشهيرة، وقد أثارت هذه الرواية ما أثارت من ضجة في أوروبا وأميركا، بلغت حد الاستياء والنقد وإن لم تصل إلى درجة الخطر كما حدث في بيروت!
الرواية تتطرق وبأسلوب روائي بحت لأحداث من حياة المسيح وسيرته ولكن بصورة تختلف تماماً عن الصورة التي وردت في الكتب السماوية، كما يصور الكتاب “الفاتيكان” مؤسسة دينية متسلطة!
لكن الحبكة في الرواية ـ التي قد تكون غابت عن بعض من قرأ الرواية، خاصة في ظل الأحداث المتسارعة والمشوقة ـ قد جاءت في إبراز دور المؤسسات الدينية ودور المجتمع الذكوري الذي ساد المجتمعات البشرية في الألفي سنة الماضية، دورهم في تجاهل مساهمة المرأة ودورها الأساسي في الحضارات البشرية عبر العصور الطويلة الماضية!
بداية، الرواية ـ وباختصار شديد ـ تتحدث عن ملحمة تقص مشوقة تلتمس العثور على الكأس المقدسة التي شرب منها المسيح في العشاء الأخير والتي راح المسيحيون فيما بعد يجدون في البحث عنها، كما تتحدث الرواية عن صراع تاريخي بين رؤيتين مختلفتين لما يتعلق بملحمة البحث عن الكأس المقدسة.
رؤية تصر على إبراز الدور المهم والرئيسي الذي لعبته “ماريا المجدلية” في الديانة المسيحية وبكونه أكبر بكثير من مجرد كونها ـ أي المجدلية ـ مثالاً لحادثة تبرز خصلة التسامح في الدين المسيحي! ورؤية ثانية تنفي أي دور للمجدلية بخلاف كونها المثال الذي رسخ مبدأ التسامح في العقيدة.
أما كيف أصبح دافنشي طرفاً في هذه الملحمة فهو في رواية الكاتب بأن دافنشي وغيره من المبدعين والملهمين كانوا دائماً من أنصار الرؤية الأولى وأنه (أي دافنشي) قد استخدم شفرات في كل أعماله بدءاً بالموناليزا ووصولاً إلى “العشاء الأخير”، تشير وتذكر بهذا الدور الأنثوي في الحضارة البشرية.
كثيرة هي الروايات والكتب التي تسعى لترسيخ الدور الأنثوي في الحضارات الإنسانية وتربط بين المرأة وإنجازات فكرية وثقافية عبر التاريخ البشري، ولعل في الثقافات الشرقية والأديان الوضعية مثل البوذية والهندوسية الكثير من العلامات والدلائل التي ترسخ دور الأنثى في التاريخ والمعابد المنتشرة في دول الشرق تقف حاضرة ومؤكدة على ذلك الدور الرائد الذي لعبته المرأة قبل أن يجير المجتمع الذكوري كل تلك المساهمات لصالحه!
منع رواية “شفرة دافنشي” في بلد يتمتع بحريات غير محدودة مثل لبنان، بحجة أن الرواية تسيء للفاتيكان كمؤسسة دينية، هو حجة واهية ولا تتناسب مع حرية الرأي والفكر والعقيدة، التي هي من أبرز سمات الدولة في لبنان! كما أن منع هذه الرواية يؤكد جهل المسؤولين بالمغزى الرئيسي في الرواية والذي لا يتعلق بالعقيدة، وإنما بالصراع الدائم بين المجتمع الذكوري من جهة، والأنثوي من جهة أخرى.
إن الحبكة الرئيسية في الرواية تتلخص في محاولات التغييب والتجاهل المتعمدة، من قبل المجتمعات الذكورية، لدور المرأة ومساهماتها في بناء التاريخ والحضارات البشرية باختلاف مراحلها وأشكالها، والمؤسسات الدينية كلها لعبت ولا تزال تلعب جزءاً كبيراً في تلك المحاولات، وإذا كان ذلك غير واضح في المجتمعات المسيحية الغربية، بسبب التغييرات والتحولات المجتمعية التي أعطت للمرأة بعضاً من حقوقها ودورها المغيب، فإن المجتمعات المسيحية الشرقية لا تزال تفرط في تغييب دور المرأة التاريخي الذي ـ على ما يبدو ـ يبث الذعر في هذه المجتمعات بدليل حرص الرقابة في لبنان، بلد الحريات، على منع رواية “شفرة دافنشي”، مع كل ما يعنيه ذلك من غموض في الوعي الشرقي، والعربي بالتحديد، لدور المرأة الريادي في صناعة التاريخ البشري.
