الأدب والثقافة والفنقضايا الوطن

شارون وحماتي

“شارون.. وحماتي”

كتاب “شارون.. وحماتي” الصادر في 2005 هو خليط من الروايات والمذكرات الشخصية.. والرؤية السياسية للأوضاع داخل الأرض المحتلة!! مؤلفة الكتاب “سعاد أميري” معمارية ومؤسسة لمركز الحفاظ على العمارة في رام الله.
نشأت “سعاد أميري” بين عمَّان، ودمشق وبيروت والقاهرة.. حيث درست العمارة في الجامعة الأمريكية ببيروت.. وفي جامعي ميتشيغان وأدنبرة!!
وقد عاشت “سعاد أميري” في رام الله منذ العام 1981.. وشاركت في مداولات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية في واشنطن بين العام 1991 – 1993!!
تروي “سعاد أميري” قصتها مع كتابها هذا والذي بدأ كمذكرات شخصية تنفس من خلالها عن معاناتها للفترة ما بين 16 نوفمبر 2001 و26 ديسمبر 2002، حيث تقارن بين هروبها من أرضها ومنزلها في رام الله يوم 18 نوفمبر 2001 وبين هروب حماتها.. (أم زوجها) من منزلها هي الأخرى في العام 1948.
عودة سعاد إلى رام الله في خريف عام 1981 لم تكن بالسهولة التي يتصورها البعض.. فقد كانت عودتها في ذلك الخريف تحمل في طياتها إصراراً على التمسك بحقها في أرضها ومنزلها في يافا.. والذي غادره أهلها في العام 1948.. لكن الوصول إلى رام الله.. وحيث لا تزال تعيش الغالبية من العرب.. لا يعني بالضرورة سهولة الوصول إلى يافا.. وهو ما أدركته “سعاد” حين حاولت اختراق حاجز الخوف من مواجهة حقها المغتصب دون حيلة ولا وسيلة في يدها لإثبات ذلك الحق!! لكنها وحين وصلت إلى يافا تراجعت عن إصرارها في البحث عن منزل أهلها المغتصب.. فالمكان لم يعد المكان الذي حفظت كل تفاصيله من روايات أمها وأبيها.
معاناة
كتاب “شارون وحماتي” يقدم طرحاً فائق الدقة لمعاناة الفلسطينيين اليومية تحت آلة الاحتلال وقوانينها وأرتالها!!
لكن “سعاد أميري” تستعرض كل تلك المعاناة في لهجة وروح ساحرة أعطت لتلك المعاناة بعداً شفافاً لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف معها ومع معاناتها!! المثير في كتاب “شارون وحماتي” إنه يدافع عن الحقوق الفلسطينية المنتهكة ولكن بأسلوب مختلف تماماً عما عهدناه من برامج وخطب وكتب ومقالات سياسية بحتة!! فسعاد تتحدث عن السياسة.. بل وكل ما ذكرته في كتابها هو في قلب الشؤون السياسية.. لكن حديثها جاء مغلفاً بنبرة ساخرة ومرحة في أحيان كثيرة.. بالرغم من كل المشاهد المأساوية التي تجابهها، ومثلما تجابه كل الفلسطينيين الرازحين تحت نير الاحتلال تسرد “سعاد أميري” في كتابها ملحمة السنوات السبع – كما أسمتها – والتي قضتها في المطالبة بإصدار هوية.. حيث لم يشفع لها عملها كأستاذة في جامعة “بير زيت”.. إن لم يكن قد ساهم في حجب هويتها.. فسلطات الاحتلال كانت تستخدم الضغوط كافة لإرغام المثقفين والأساتذة على التوقيع على وثيقة تدين منظمة التحرير كشرط لاستمرارهم في الجامعة أو لحصولهم على هوية!!
من شرفة منزلها في رام الله الواقع على شارع الإرسال.. تقدم “سعاد أميري” نماذج من المجتمع الفلسطيني الذي لا يختلف عن أي مجتمع آخر!! ومن الواضح أنها تحاول أن لا تضفي مسحة استثنائية على الفلسطينيين الصامدين تحت نير الاحتلال.. وهي تطرح بذلك نموذجاً الشاب “رامي” جارهم ذو الخمسة عشر ربيعاً.. والذي يحاول أن يبرر “تعاونه” مع سلطات الاحتلال بكونه مساعد لشقيقه المتهم بتصوير مواقع حساسة في “مطار اللد”!! أما “أم زاهي” و”أبو زاهي”.. فيقدمان نموذجاً تقليدياً للأسرة الفلسطينية والتي لم تستطع ظروف الاحتلال أن تغير من اهتماماتها وشؤونها اليومية.. حتى في أدق التفاصيل!!
استعراض أحداث
تستعرض “سعاد أميري” في كتابها محطات سياسية حرجة سادت المنطقة العربية في العشرين عاماً الماضية.. من أحداث لبنان.. إلى الحرب العراقية الإيرانية.. وحرب الخليج الثانية في العام 1991!! لكن طرحها المفعم بالموضوعية الكلية والماهرة.. مكنها من استعراض تلك الأحداث برشاقة باهرة.. وبعيدة كل البعد عن جدلية الحوار التي لا تزال دائرة في المجتمعات العربية حين يأتي الحديث عن أي من تلك المحطات المفصلية من تاريخ المنطقة!!
فالحرب على صدام حسين في العام 1991 تحولت في كتاب “شارون وحماتي” إلى مناسبة قدمت فيها “سعاد أميري” صوراً للعنجهية والعنصرية التي حجبت عن الفلسطينيين الكمامات الواقية من الغازات السامة!! وكيف أنها حين اضطرت تحت الضغوط.. إلى توزيع كمامات فاسدة أو منتهية الصلاحية! ثم تصب “سعاد” جام غضبها على الجندي الإسرائيلي الذي أوقفهم بسبب مخالفتهم لقانون حظر التجول.. حيث كانت في مهمة تسوق مع حماتها.. وزوجها!! شأنهم شأن كل الفلسطينيين الحريصين على تخزين مواد التغذية كافة مخافة استمرار الحرب لفترة أطول!!
تكاد “سعاد أميري” في بعض فصول كتابها تتخلى بعض الشيء عن روح الدعابة والسخرية.. خاصة حينما تستعرض بعض الإسقاطات النفسية التي خلفها الاحتلال في نفوس الفلسطينيين وكما حدث معها من شكوك أرهقتها وجعلتها تعزف عن النوم.. الذي هو نشاطها أو هوايتها المفضلة.. وذلك حين أهداها جارها الصغير “رامي” والذي لمح يوماً إلى “تعاونه” مع السلطات الإسرائيلية.. أهداها لوحة مفضضة للحرم المكي!! يومها اشتعل الشك في قلبها من احتمال أن تكون اللوحة موصولة بمايكروفونات مراقبة من الموساد!! ويومها أحست سعاد بالقلق الذي لم تثره مدرعات جيش الاحتلال.. ولكن أثارته لوحة لمكة أهداها إياها شاب فلسطيني صغير!! هو إذاً القلق الذي تحاول “سعاد أميري” أن تكبح جماحه.. أو تتجاهله فتغلفه بتلك المسحة العفوية من الدعابة والسخرية.. لكن القلق ذاته يبرز في كل انفعال أو ردة فعل للفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال. تلمسه “سعاد” وتستشعره في مظاهرات النسوة في يوم المرأة المطالبات بإنهاء الاحتلال.. وتحسه في غصة أساتذة “بير زيت” حين اعتقلت السلطات الإسرائيلية وضربت أستاذ التاريخ الفرنسي الأصل والذي أتهم بأنه وراء تنظيم تظاهرة يوم المرأة الفلسطينية!!
الكلبة نورة
تبلغ “سعاد أميري” قمة السخرية والتهكم في نقدها وشجبها للممارسات الإسرائيلية العنصرية بحق الفلسطينيين.. حين تروي حكاياتها مع كلبتها “نورة” التي يبدو أنها تتمتع بحقوق اكثر من صاحبتها.. فالكلبة “نورة” وفقاً للقوانين الإسرائيلية مؤهلة لأن تحصل على هوية وجواز يقران لحاملهما بالانتماء إلى القدس!! وهي الهوية التي يعجز الفلسطينيون المقيمون في رام الله مثل “سعاد” أو حتى المقيمون في “القدس” الحصول عليها!!
لكن الكلبة “نورة” استطاعت أن تحصل على هوية يقف آلاف الفلسطينيون في طوابير طويلة ولعشرات السنين أملاً في الحصول عليها!!
تحاول “سعاد أميري” أن تقدم بعض الصور الإيجابية لإمكانية التعايش السلمي بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.. فتتطرق تارة لحوادث مثل حادثة إسعافها لمواطن إسرائيلي أصيب بأزمة قلبية متجاهلة كل المخاطر التي قد يسببها موت الرجل في سيارتها وقبل إسعافه!!
ثم تستعرض “سعاد أميري” قائمة الأصدقاء الذين اتصلوا بها للاطمئنان عليها وعلى زوجها وحماتها إثر محاصرة القوات الإسرائيلية لرام الله.. والبيرة.. وقصف مقر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات!! وحيث حوت القائمة أصدقاء إسرائيليين.. في إشارة واضحة إلى جهل السياسة بطبيعة العلاقات الإنسانية الحميمة!!
تستعرض “سعاد أميري” الأوضاع في رام الله أثناء فترة الحصار في العام 2002.. والتي امتدت من 29 مارس وإلى الأول من مايو!! وعلى الرغم من محاولتها الجادة لإضفاء مسحة هزلية على الحصار الإسرائيلي لرام الله.. والبيرة ومقر الرئيس الفلسطيني.. إلا أن القارئ لا يغفل نبرة الحزن في كل ما ذكرته المؤلفة من تفاصيل جاءت مغلفة بروح الفكاهة التي سادت الكتاب بشكل عام.. والتي بلغت أقصاها في محاولة “سعاد” مع بعض الأصدقاء إنهاء حصار المدرعات الإسرائيلية لمنزل حماتها “أم سالم”.. والتي شاء قدرها أن يكون منزلها على مسافة قريبة من منزل الرئيس الفلسطيني المحاصر آنذاك “ياسر عرفات” واستطاعت “سعاد” (أن تنهي حصار منزل حماتها البالغة من العمر إحدى وتسعين عاماً) وأن تصطحبها معها إلى بيتها!! بعد أن اجتازت معها جنازير ودبابات القوات الإسرائيلية.. في إشارة واضحة إلى عدم تكافؤ الأطراف المتحاربة.. وحيث يستمر تساقط المدنيين الأبرياء وكما هو حال الشاب “جاد” الذي اخترقت الرصاصات الإسرائيلية رقبته وأردته قتيلاً!!
حياة بمعايير خاصة
الحياة في الأراضي المحتلة لها معاييرها الخاصة لما يتعلق بالحظ والمحظوظين.. وبالسعادة والسعداء.. ففي ظروف مهينة ومكبلة بأنواع القيود كافة.. يكون عبور “سالم” زوج سعاد من القدس إلى رام الله ليلتقي بزوجته ويحتفل بعيد ميلادها.. دون معوقات.. قمة الحظ والسعادة!! وعلى الرغم من روح الكتابة المرحة.. إلا أن حياة مكبلة بنقاط التفتيش.. وبتصاريح الدخول.. وتفتيش المنازل.. لا يمكن إلا أن تلقي بظلالها على روح ولغة الكتابة.. وهو ما يميز لهجتها في الفصول الأخيرة من الكتاب.. حين أصبحت أبسط الحقوق.. كالحق في التنقل بين قطاع وآخر فهي عملية تكاد تكون شاقة ومضنية!! وحيث يموت المريض في طريقه إلى المستشفى بسبب الحواجز.. وتضع الحامل طفلها على الإسفلت!! وتصبح عملية إصلاح باب بيت حماتها الذي كسرته قوات الاحتلال.. عملية تحفها مخاطر الاستجواب والتفتيش بسبب الأدوات المستخدمة في عملية إصلاح الباب هذه والتي قد تثير شكوك سلطات الاحتلال!!
تفرد المؤلفة فصلاً كاملاً يحكي معاناتها كمعمارية وكمؤسسة لمركز “رواق” للحفاظ على العمارة في رام الله.. مع الانتهاكات الإسرائيلية.. وذلك حين دمرت القوات الإسرائيلية الحي التاريخي القديم في “نابلس”.. وقصفت الطائرات مصانع “نابلسي” و”كنعان” لإنتاج الصابون.. والتي تعتبر من الإرث التاريخي لنابلس!!
مكالمة مع الرئيس الأمريكي
تختم “سعاد أميري” كتابها بفصل يحوي مكالمة تخيلت أنها أجرتها مع الرئيس الأمريكي.. وحيث يأتي التلاعب بالمفردات اللغوية ليعكس حجم الهوة السحيقة التي تفصل بين الرؤية الأمريكية.. والرؤية العربية أو الفلسطينية!! ليبقى الوضع داخل الأراضي الفلسطينية يدور في الفلك ذاته.. بين انتهاك لحقوق المواطنين.. وتفتيش.. وهدم منازل.. وقتل!! ويبقى منزل “أم سالم” حماة سعاد العجوز محاصراً بالدبابات والمدرعات.. جنباً إلى جنب مع مركز قيادة السلطة الفلسطينية الذي تساقطت أجزاء منه بفعل القصف الإسرائيلي.. تماماً كما تساقط زجاج شبابيك الحماة “أم سالم”!!
كتاب “شارون وحماتي” محاولة ذكية لتصوير المعاناة الفلسطينية بأدق تفاصيلها.. ولكن دون اجتهاد أو تنظير سياسي!! وبحيث غطى الكتاب مع صغر حجمه نسبياً كل مراحل المعاناة الفلسطينية.. بدأ بنبكة 1948.. انتهى بجدار الفصل العنصري في قلقيلية!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى