رثائيات

رموز وأعلام ورثاء

في رثاء فقيد مجمع اللغة العربية
هذا الذي أحاول أن أرثيه، هو علم من أعلام العلم، لا يستهويه شيء في هذه الدنيا غير طلب العلم وخدمته وتنميته، والذي قدر له أن يشهد، ولو جلسة واحدة من جلسات مجمع الخالدين، مجمع اللغة العربية، سيتبين له بوضوح أن الدكتور إبراهيم مذكور رئيس المجمع ممن أتاه الله فضله وشرح صدره للعلم وخدمة الإسلام، بما خلّف من آثار في الفلسفة والأدب والاجتماع، والبحوث الأدبية، إلى جانب أنه في إدارة جلسات المجمع كان حازماً في لين، وكان مستنيراً، يكره التشدد أعظم الكره، فهو لا يرضى أن يطغى عضو من الأعضاء في حديثه على أحاديث غيره، مهماً كانت منزلته وموقعه.. وإذا تحدث، صغت له قلوب سامعيه قبل آذانهم، لما تتصف به أحاديثه وكتبه من إشراق في الأسلوب، ووضوح في اختيار المفردات، كما أن لصوته نغمة تجعل سامعيه يودون لو أطال في حديثه.
اختاره الله إلى جواره في شهر رجب الأصم من هذا العام 1416هـ (1995م)، وبذلك فقد المجمع عالماً لا يمل من تنمية الثقافة الإسلامية.
ومما لا يحتاج إلى بيان، أن هذا الخبير وأمثاله من أقمار الثقافة يبقون أحياء وإن كانت أجسادهم تحت أطباق الثرى، فهم تيجان الفخر على رؤوس أممهم، إذ أن الأمة المتحضرة لا تعتز بشيء كما تعتز بخبراتها وعلمائها، تقول الأبيات:
الفَخْـــــرُ إلا لأَهـــــلِ العِـــــلـــــمِ إنَّهُـــــمُ ..
عـــــلى الهُـــــدَى لِمَـــــن اسْتَهْـــــدَى أَدِلاَّءُ
وقَـــــدْرُ كُــــلِّ امـــــرِئٍ مَـــا كـــان يُحْسـنُهُ..
والجَــــــاهِلُون لأَهـــــلِ أعَــــــداءُ
ولقد سعدت بلقائه والاستماع لحديثه، وكان كثيراً ما يشيد بما تقدمه الكويت للثقافة والمثقفين، على أني كنت أحرص أشد الحرص على الإصغاء بكل انتباه، حين أعرف أنه سيلقي كلمة أو حديثاً في مجمع اللغة العربية. ولقد شاء الله أن تكون رحلته في هذه الدنيا رحلة مديدة، ذلك أن ولادته كانت في أول هذا القرن، أما تنمية عقله فإنها اتخذت مساراً واسعاً متفرعاً إلى عدة شعب، فقد التحق بالأزهر بعد اجتيازه مراحل المدرسة الأولية، فمدرسة القضاء الشرعي حيث اجتاز قسمها الأول، ثم بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتتلمذ له عدد غير قليل ممن أضحوا أساتذة ورؤساء أقسام في المواد الفلسفية والاجتماعية بكليات الجامعات العربية المختلفة.
بعض إسهامات الفقيد
ولقد أراد هذا العالم أن يسهم في خدمة الشعب المصري، وذلك بأن يكون عضواً في مجلس الشيوخ، حيث كانت السياسة في مصر تتشكل من مجلسي الشيوخ والنواب، فكان له ما أراد، وكان في أثناء ذلك مستمراً في بحوثه الفلسفية، وقد شارك في عدة مؤتمرات علمية وفلسفية في أوروبا وآسيا.. ولكم دعي، رحمه الله، إلى المحاضرة في معاهد مختلفة شرقاً وغرباً ومن بينها السوربون، وقد منحته جامعة برنستون الدكتوراه الفخرية سنة 1964 تقديراً لخدماته العلمية ونشاطه في التبادل الثقافي بين أبناء العروبة وأبناء الغرب.
ولقد اختير المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور لعضوية المجمع عام 1946، بين عشرة من أعضائه اكتمل بهم عدد أعضاء المجمع 40 عضواً، وقد أطلق عليهم “العشرة الطيبة” ومنذ ذلك التاريخ وهو يتابع نشاطه في المجمع من خلال الإيمان برسالته وأهدافه، فاشترك في عدد من لجان المجمع لعلّ أهمها لجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
وهكذا أخذ فقيد العلم والفلسفة ينتقل في مناصب المجمع، إلى أن أصبح رئيساً له بعد وفاة الدكتور طه حسين، رحمه الله، سنة 1974.
وللحق أنه كان نعم الرئيس، إذ كان يملأ الجلسات بالحيوية والنشاط الأمر الذي يبعد الملل عن الأعضاء في تلك الجلسات اللغوية والأدبية.
وبعد، فإني لم أورد في هذه الكلمة إلا نبذة يسيرة من سيرة هذا العالم الذي منحه الله مواهب عديدة استخدمها كلها في تنمية الفلسفة الإسلامية واللغة العربية، تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جناته.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى