ديفيد معلوف..

ومخاوف المستعمر الأبيض في أستراليا
حنين الحضارة الأم يبقى فينا
قد لا تكون هذه هي المرة الأولى التي يثير فيها كاتب.. صراع الحضارات بداخله.. فالكاتب الأسترالي ذو الأصل اللبناني “ديفيد معلوف” يطرح هذه القضية.. مغلفة برواية تتصدر الآن قائمة أفضل الروايات في الغرب..
و”ديفيد معلوف” ذلك الإنسان الودود.. ذو الحس الإنساني المرهف.. استطاع وبصورة معبرة.. أن يدخل في أغوار نفسه.. ويبحث فيها من خلال روايته الأخيرة “تذكر بابل” “Remembering Babylon” عن أثر ذلك الصراع بين الحضارات.. في الكثير ممن عاشوا مثله نزاع الحضارات بداخلهم.
مزيج حضاري
و”ديفيد معلوف”.. ولد في أستراليا.. من أب لبناني مسيحي.. وأم يهودية إنكليزية.. من أصل برتغالي.. وهو بذلك يعي جداً ذلك المزيج الحضاري الذي يمتد به إلى جذور.. شرق أوسطية وأوروبية ويعي جيداً التناقض الكامن في كل من تلك الحضارات.
يرى “ديفيد معلوف” أن روايته “تذكر بابل” “Remembering Babylon” تشمل جانبين من أكثر الجوانب الشائعة في المعالجة الأدبية في أستراليا.. فهو يرى أن هناك نوعين من المعالجة الأدبية.. إحداهما تتعلق بفقدان أطفال في غابات أستراليا.. والأخرى تعالج دوماً.. حياة رجل أبيض يعيش بين سكان المنطقة الأصليين.. وقد شمل “ديفيد معلوف” كلا الجانبين في روايته الأخيرة “تذكر بابل” وحيث تبدأ الرواية بـ”جيمي” الطفل الإنكليزي الصغير ذي الثالثة عشر ربيعاً والذي ألقت به إحدى السفن على شواطئ أستراليا في العام 1840.. وحيث أخذته إحدى القبائل من السكان الأصليين.. وعاش بينهم وتبدأ الرواية بعد ذلك.. بمرور 16 عاماً على هذه الحادثة.. ومع وصول الاستعمار الأبيض إلى الشواطئ الأسترالية.. وحيث يواجه المحتلون الجدد.. ظاهرة هي بين الأبيض والأسود أثارتهم في قلوبهم الرعب والخوف عن إمكانية تأثرهم بالمستعمرة الجديدة.. بدلاً من تأثيرهم فيها والذي كان متوقعاً من جانبهم.
لقد استطاع “ديفيد معلوف” من خلال شخصية روايته الأساسية.. وهي الطفل “جيمي” الذي عاش وسط السكان الأصليين.. استطاع “معلوف” أن يبحث في قضايا شغلت الأستراليين على مدى طويل.. وخاصة مع تزايد معلوماتهم عن تاريخ.. وحضارة السكان الأصليين.. وهي قضايا تعود إلى اللقاء والمواجهة الأولى بين السكان الأصليين.. والمستعمر الأبيض وحيث يرى “معلوف” أنه قد يكون من السهل عليه أن يذكر تلك الأمور التي اكتشفها المستعمر الأبيض من خلال معايشته للسكان الأصليين.. إلا أنه يريد أولاً أن يؤكد على تلك المخاوف التي تنازعت الرجل الأبيض حين استقر لأول مرة.. وهي مخاوف تتعلق بحقيقة تأثير تلك الأرض الجديدة على المستعمر القادم.. والتي قد تجعلهم يثيرون تساؤلات لم يعهدوها من قبل.. عن حقيقة الرجل الأبيض.. وعن ما يمكن أن يعنيه أن يكونوا أوروبيين.
إلحاح على الأصول
ويرى “معلوف” أن ذلك الأسلوب الذي اتبعه في طرح روايته من خلال التأكيد على الصراع الحضاري في أستراليا.. وهو أسلوب يتبعه الكثير من الفنانين.. والرسامين.. الأستراليين.. يرى “معلوف” أن ذلك الأسلوب يعكس حقيقة واحدة.. وهي تزايد موجة البحث عن الأصول في أستراليا.. وحيث زاد الإلحاح بين الأستراليين في طرح تساؤلات بشأن وجودهم في هذه الأرض.. وهي تساؤلات ضاعفت من إحساس الأدباء والفنانين خاصة بأهمية الأرض كمساحات وتضاريس ممتدة أمامهم ويرى “معلوف” أنه بينما تؤكد وجهة النظر الأوروبية أن مساحات الأراضي والمناظر والتضاريس الطبيعية.. تعزز من إنسانية الأوروبيين وحضارتهم فإن المساحات الأسترالية.. بالرغم من أنها لا تحوي أي مظاهر عدائية.. إلا أنها لا تعكس أي مظاهر إنسانية أو حضارية.. وذلك لأنهم في أوروبا يرون أن طاقة البشر يجب أن تعبر عن وجودها من خلال التغيير والتجديد.. بما فيه تغيير مساحات الأرض والتضاريس.. بينما يختلف الوضع بالنسبة للسكان الأصليين.. الذين يرون في تلك المساحات الأرضية والتضاريس الطبيعية.. ما يزيد من شفافيتهم وروحانيتهم..
وهنا يتفق “معلوف” تماماً مع الاتجاه الروحاني للسكان الأصليين.. ذلك الجو الروحاني المعبق بشفافية “معلوف”.. يسيطر على شخصيات روايته “تذكر بابل” وهنا يدفعنا “ديفيد معلوف” ابن المهاجر اللبناني، إلى زيادة التأكيد على ذلك التقارب بينه وبين أقرانه من الأدباء وعلى وجه الخصوص.. أدباء المهجر من الأصول اللبنانية.. فبخلاف التشابه الخارجي والشكلي بين “ديفيد معلوف”.. و”ميخائيل نعيمة”.. فإن هناك تشابه في ظروف كثيرة.. إن كان من حيث ظروف الهجرة والاغتراب.. أو من حيث الشفافية والروحانية المسيطرة على كتابات “ميخائيل نعيمة” والتي نلمسها بوضوح في كتاب “معلوف” “تذكر بابل” والذي يؤكد من خلاله.. أن حياته في صخب ووسط المدينة.. لم تنجح في عزله عن الأرض ومخلوقاتها.. وعن الإحساس المرهف بكل ما عليها.. من مخلوقات وحياة.
مبنى الحضارة الأم
لقد حاول “ديفيد معلوف” من خلال روايته التأكيد على تجذر الحضارة بها في داخلنا.. وهو يحاول أن يبرهن من خلال شخصية روائية.. الطفل “جيمي”.. أن الحنين إلى الحضارة الأم سيبقى كامناً بداخلنا.. فعلى الرغم من أن “جيمي”.. الطفل الأبيض.. قد عاش وسط السكان الأصليين لسنوات طويلة.. ما إن رأى مقدم الرجل الأبيض حتى سارع إلى الصراخ فيهم.. بأن لا يطلقوا النار.. فهو مواطن إنكليزي وهنا ومن خلال كلمات “جيمي” التي نادى بها القادمون تكمن ذروة الرواية “Plot” وحيث يظهر بوضوح أثر السنوات التي قضاها “جيمي” بين السكان الأصليين في شخصه.. ذلك الأثر الذي أثار مخاوف المستعمر الجديد عن حقيقة ما تخبئه له الأرض الجديدة وحيث يصرخ “جيمي” قائلاً لا تطلق النار.. فأنا تابع إنكليزي “British Object” بدلاً من استخدام اللفظ الحقيقي للتعبير عما يعنيه بكونه مواطن إنكليزي “British ٍSubject” وحيث يرى معلوف هنا. أن تلك الكلمات تلخص المغزى الحقيقي للرواية.. وهي إعادة النظر إلى ما يعتبر “تابع” أو “Object” واعتباره الأصل أو الأساس “Subject”.
لقد عالج “جاميك هايووتر” “Jamake Highwater” أموراً مشابهة لما عالجه “ديفيد معلوف” وذلك في كتابه المثير “العقل البدائي” “The Primal Mind” والذي يبدأ حديثه بالقول أن المسافة الأكبر بين البشر.. ليست في المكان بل في الثقافة و”هايووتر” بحكم نشأته الأمريكية وحكم عمله كفنان ومهندس.. يرى أن الصعوبة في الحياة بين ثقافتين لا تكمن فقط بمفردات اللغة واختلافات استخدامها.. فذلك أمر سهل.. يمكن إخضاعه بالترجمة التي قد تعمل على نقل المعنى بدقة لا يفقد معها المعنى الأصلي.. أصالته.. لكنه في الوقت ذاته يؤكد صعوبة ترجمة العقلية التي تنفرد بها حضارة دون الأخرى.
الاختلاف هو الأصل
ويناقش “جاميك هايوونز” قضية هامة في الثقافة.. تطرق لها “ديفيد معلوف” في كتاباته وخاصة في كتابه الأخير “تذكر بابل” “Remembering Babylon” وحيث يرى “ديفيد” أنه وعلى الرغم من تطرقه لقضايا وأمور تهم سكان أستراليا الأصليين، وبالرغم من كونه مواطناً أسترالياً الآن.. إلا أنه لا يستطيع القول بدقة سرده الإنثربولوجي للوقائع التي ذكرها في كتابه.. لذلك فهو يقول.. إنني وللأسباب تلك فقد جعلت الشخصية الرئيسية في الرواية.. وهي الطفل “جيمي”. تتحدث من وجهة نظر قد يوحي ديفيد معلوف الدقة الكاملة في تعرضه لقضايا السكان الأصليين وتلك حقيقة ينبه لها “هايوونز” في كتابه “العقل البدائي” أو “Primal Mind” فيقول أن هناك مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تخص البيض كما أن هناك من المعتقدات ما يخص “الهنود” وبحيث يمكن دراسة كلا الحضارتين على ضوئهما معاً.. فهو يرى أن دراسة البشرية تكون أكثر فاعلية من خلال دراسة الاختلافات في الحضارات.. بدلاً من تشابهها.. وهو يرى كذلك أن ذلك الكم من الثقافة أو الحضارة هو الذي يؤهلنا لمعرفة العالم من حولنا.. وأنها بالتأكيد ثقافات اكتسبناها منذ الولادة.. وهي التي تشكل معتقداتنا وفهمنا للعالم من حولنا.
قد يختلف الوضع بالنسبة لـ”جاميك هايوونز”.. فهو يتحدث بصفته القاطن الأصلي لأمريكا.. بينما يتحدث “ديفيد معلوف” على كونه القادم بثقافته ليمتزج بثقافة السكان الأصليين لأستراليا لذلك فإن معلوف يرى أنه لا يستطيع أن يعبر بصورة قاطعة عن وجهة نظر السكان الأصليين في أمور كثيرة.. فهو لا يستطيع مثلاً.. أن يترجم بدقة علاقة السكان بالأرض.. خاصة بعد أن يتيقن كغيره من الأدباء.. من حقيقة أن السكان الأصليين لا يشغلون المساحات الجغرافية وحسب.. وإنما يتغلغل وجودهم في التكوين النفسي والحسي للأرض. فبينما تحاول شخصية روايته “جيمي” أن تتأقلم مع الواقع الجديد في إنكلترا.. بعد أن تم انتشاله وإنقاذه من وسط السكان الأصليين.. وإعادته إلى ثقافته الأصلية.. فإن “جيمي” يشعر بصعوبة.. ليس فقط في إعادة تعلم اللغة والعادات الإنكليزية.. وإنما هي صعوبة في انتشال نفسه من الثقافة التي عاشها وسط السكان الأصليين.. وهو ما يراه “ديفيد” خطراً حقيقياً في التأثير الثقافي.. خاصة المفروض منه.. بكونه الثقافة الأرقى والأهم.
وتلك هي نفس القضية التي يناقشها “هايوونز” بقوله إن في بعض الثقافات المسيطرة – وهو يؤشر هنا إلى ثقافة المجتمع الأمريكي – فإن الناس مطالبون بعدم الرجوع إلى الرؤى الشخصية.. والتي قد تخلق من الفرد شخصاً غير مرغوب فيه.. أو أحياناً قد يكون وجوده خطراً على الثقافة السائدة.. وهو الذي يدفع الكثير ممن يمتلكون ثقافتين.. يدفعهم إلى محاولة إضفاء ما يجعل آرائهم تحظى بقبول لدى الثقافة السائدة.
شعور الاغتراب
“هايوونز” يرى تماماً ما يراه “ديفيد معلوف” من أن العقل البدائي أو الثقافة الأم.. هي نقطة انطلاق لآراء كثيرة.. نخص أولئك الذين يعيشون في أجواء ثقافة مسيطرة.. ويشعرون باغتراب.. ذلك الشعور بالاغتراب هو الذي دفع “هايوونز” لكتابة مؤلفه “العقل البدائي” “Primal Mind” وهو الشعور ذاته الذي جعل “ديفيد معلوف” يتحدث من خلال شخصية روائية خشية أن يقع في أخطاء ثقافية.. وكلاهما “هايوونز” و”ديفيد معلوف” يرون أن الأدب والفن.. يستطيع أن يتحدث بلسان كل الفئات الاجتماعية.. والفكرية.. والاقتصادية.
وفي حين يرى “هايوونز” أن الأيادي التي حفرت في الكهوف.. وعلى صخور الجبال.. كل معالم الحياة الهندية.. فطبعت بذلك أساطيرهم.. وقصصهم وخلدتها.. لتبقى شاهدة على العقل البدائي.. وعلى الثقافة الباقية فإن “ديفيد معلوف” يؤكد كذلك.. أن كل المحاولات من قبل السكان البيض القادمين.. من ثورة أوروبا الصناعية.. لكشف أسرار وخفايا حياة السكان الأصليين.. كل تلك المحاولات قد أخفقت فما زال هناك الكثير من الأسئلة التي لم تجد لها إجابات عن أمور السكان الأصليين.. والتي يحرص هؤلاء بدورهم على الإبقاء عليها.. وحفظها.




