دولة للرجال فقط!

دولة للرجال فقط!
تُرى ماذا تُخبّئ لنا نحن في هذه المنطقة الحيوية من العالم الحرب القادمة في أفغانستان؟ فالجهود اليوم متواصلة لإتمام عملية إجلاء القوات الأمريكية والغربية من أفغانستان، بعد تواجد وحضور جاوز الأربعة عقود، بدأت منذ غزو الجيش السوفيتي في أواخر السبعينيات من القرن الماضي دعماً للحكومة “الشيوعية”، آنذاك، ليخوض حرباً ضد حركة المقاومة من “المجاهدين” المدعومين من الولايات المتحدة وباكستان والصين وبعض الدول العربية. تفكّك الاتحاد السوفيتي وانسحبت قواته من أفغانستان في عام 1989 الذي شَهِدَ تصاعداً للعنف مع ولادة حركة طالبان، التي سرعان ما رفعت شعار الحكم بالشريعة الإسلامية، وطبّقت نظام الحدود في العقوبات، وتم إطلاق لحى الرجال، وفرض النقاب على النساء وحظر الموسيقى والسينما والتلفزيون، ومُنِعَت الفتيات ممن تجاوزن العاشرة من الذهاب إلى المدارس، وبالطبع جاء نصيبنا في العالم العربي وافراً من ثقافة طالبان، حيث امتد التعصّب والانغلاق، والجانب الشكلي من العقيدة مثل اللحية والنقاب ومحاربة كل أشكال الفنون، فاندثرت الثقافة، وانحدر التعليم، وزاد العنف، وسيطر الجهل.
تلك كلها جاءت كنتائج مباشرة للصراع في أفغانستان، الذي أدّت مشاركة دول عربية فيه إلى امتداد ثقافة طالبان التي تراكمت عبر أربعة عقود، لِنَحصد على إثرها كماً مخيفاً من الفكر الأصولي الرافض للحريات وللآخر بشكل عام.
سنوات طويلة من الحروب والمعارك التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المدنيين، وتم خلالها تهجير أضعاف تلك الأعداد، انتهت وفق إعلان حركة طالبان “كسبنا الحرب، وأمريكا خسرتها”، ولا يعلم أحد بعد معايير ذلك “الكَسْب” الحقيقية، بخلاف موافقة الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي على سحب القوات في مقابل التزام حركة طالبان بعدم السماح للقاعدة بالسيطرة على الحركة!
اليوم يتعقّد المشهد الأفغاني أكثر في ظل التوتّر الذي تشهده دول جوار أفغانستان، مثل باكستان وإيران وطاجيكستان، وبدأت كل قوة في مَد نفوذها على معابر آمنة تُمكّنها من المناورة والتحرّك والدفاع. وها هي باكستان تُعلن عزمها إغلاق حدودها مع أفغانستان، بينما تُطارد إيران بعض العناصر الطالبانية التي سيطرت على أهم المنافذ الحدودية بين أفغانستان وإيران، بل وحتى تركيا التي ألمَحَت إلى احتمال مساهمتها في تشغيل وحماية مطار كابول، تتلقى إجابة صارمة من طالبان، التي أبلَغَت الجميع رفضها بقاء أي جندي أجنبي، ومنهم الأتراك.
انسحاب الولايات المتحدة وتوابعها من أفغانستان ليس شأناً خارجياً، وإنما حدث يَهمّنا بالدرجة الأولى في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في ظل التجربة السابقة التي شهدت سيطرة حركة طالبان وولادة القاعدة، وخروج قوافل التنظيمات الأصولية بفكرها الرجعي، وانغلاقها الفكري الذي انعكس وبشكل مباشر على جميع الدول العربية، حيث احتضنت دول عربية أو إسلامية فروعاً مُلحقة بصورة مباشرة بالقاعدة، وبتنظيم طالبان.
قطعاً لن يخرج من مثل هذا المزيج العقائدي الأصولي المُنغَلِق، حركة تنوير، أو ثورة علمية، أو مؤسسات سلام ورخاء، وسيكون نصيب المرأة حصة الأسد هنا، فالتعليم محظور على المرأة والنقاب مَفروض، والطّبابة مَشروطة بتوافر مُحرَم رجل، والنساء ممنوعات كذلك من التحدّث بصوت عالٍ، أو ارتداء حذاء ذي كعب عالٍ، وذلك درءاً لفتنة الرجال، وأيضاً منع عرض صور النساء في الصحف أو الكتب أو المجلات، كما قامت طالبان بتغيير أي اسم لأي مرفق إذا كان يحوي اسم المرأة، فتم تغيير مسمى “حديقة النساء” إلى “حديقة الربيع”، وهكذا تتجلى ثقافة طالبان في أبرز صورها!
لا داعي لسرد الخلفية الفكرية لمن أصبح يُطلَق عليهم “الأفغان العرب”، الذين نشروا فكرهم الأصولي قبل سلاحهم القاتل في دول العالم العربي جميعها، فهؤلاء يَجهرون برفضهم للتعامل مع مؤسسات الدولة المدنية باعتبارها قائمة على الكفر والطاغوت، ولهم معاييرهم الخاصة في تعريف المُنكَر، ويجوز لهم قِتال الجميع، طمعاً في الشهادة والفوز بالحور العِين، وإذا كان أصدقاء الولايات المتحدة قد غَضّوا البَصَر سابقاً عن مسألة التحاق مواطنيهم للجهاد والتبرّع في أفغانستان على اعتبار أنهم يواجهون مداً “شيوعياً كافراً” آنذاك، فإنهم اليوم أمام معادلة جديدة، لا مكان فيها “للشيوعية” المُنفّرة، بل أنظمة رأسمالية مُمتَدّة عبر الكرة الأرضية تدعمها جيوش واقتصادات مُحصّنة، فهل ستتغّير قواعد اللعبة هذه المرة وفقاً لمُستَجدات المرحلة، أم سيستمر سيناريو شمّاعة “الخطر الخفي”، فنكون بذلك أول من تُصيبه الشظايا الأصولية التي سَتَخرج من الحالة الأفغانية بنسختها الجديدة، والتي حتماً سيكون فيها نصيب المرأة، أولى الطلقات! فأفغانستان وهيئتها وفكرها الأصولي هي دولة للرجال فقط.

