شئون دولية

بضعة أيام هزت العالم

بضعة أيام هزت العالم

المواجهة التي شهدتها روسيا في الأيام الأخيرة الماضية.. والتي انتهت بانتصار العسكر على الديمقراطية.. هي بلا شك واحدة من سلسلة مواجهات لا بد وأن تشهدها روسيا في محاولتها تبني النهج الديمقراطي على الطريقة الغربية.
لا شك أن العالم قد حبس أنفاسه طوال أيام الأزمة السياسية الروسية.. فالكل يريد أن يطمئن على “الزر النووي”.. وعمن يملكه.. والزمن الذي تجاوز العشرة أيام أعاد الذاكرة إلى أيام عشرة مشابهة.. ما زالت محفورة في ذاكرة التاريخ.. كانت قد هزت العالم بأكمله حينها. وهي الأيام التي عاشتها الثورة الروسية في بدايتها..، بالتحديد في أحرج مراحلها.. ما بين “16-26” من أكتوبر لعام 1917.. والتي كانت مرحلة من أهم مراحل انتقال الثورة الروسية وتحولها من ثورة برجوازية إلى ثورة اشتراكية.
وإذا كانت تلك الأيام السابقة التي خاض فيها الرئيس “يلتسين” مرحلة من أصعب مراحل زعامته.. استطاع فيها أن يتجاوز المخاطر التي بدأتها أمته القديمة مع البرلمان.. فإن تفاصيل الأحداث.. والأسلوب الذي تم فيه قمع المعارضين.. هو بلا شك من أهم الملامح التي ستميز القيادة الروسية القائمة والقادمة بلا شك.
لا شك أن الأسلوب الذي تمت به معالجة الأزمة يعتبر انتهاكاً لأبسط المفاهيم الديمقراطية.. فبخلاف العنف… والعسكر التي هي من معالم الديكتاتورية.. فإن حل الرئيس الروسي للمجالس.. وإغلاقه الصحف.. ثم إعلانه أخيراً بأنه سيقوم بتعيين مدراء الأقاليم.. وذلك بدلاً من انتخابهم.. كل ذلك ينذر بأن المرحلة القادمة قد تشهد أحداثاً ستغير من ملامح النظام العالمي الجديد والذي نشأ عن تفكك الاتحاد السوفيتي.. كأهم ركائزه.
الديمقراطية التي أيدها الغرب.. واستنكر انتهاكها بدأت بتجاوز أهم معالم الديمقراطية.. وهي الفصل بين السلطات.. ولعلّ الأحداث الدامية الأخيرة.. تؤكد أن الحرب بين السلطات.. هي التي أصبحت المعلم الرئيسي في ديمقراطية روسيا.. تلك الحرب التي عاشتها روسيا لبضعة أيام.. برئيسين.. ووزيري دفاع.. في هرم السلطة.
لعلّ أكثر ما يثير قلق العالم بأسره الآن.. هو أن الأوضاع العالمية التي ميزت أيام العام 1917.. هي بلا شك أقل حساسية عن أيام العام 1993.. فالسباق النووي.. وتكنولوجيا السلاح.. هي التي جعلت أحداث موسكو الحالية تهز العالم وتحبس أنفاس المراقبين.. وتؤكد شرعية قصف.. واقتحام برلمان منتخب من الشعب!!
فعلى الرغم من أن انقسام هرم السلطة في موسكو.. كان بإمكانه أن يخلق انقساماً حاداً في الشارع الروسي. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث وبالصورة التي توقعتها جميع الأطراف.. فالمظاهرات التي خرجت مؤدية لأي من طرفي النزاع.. لم تصل في أعدادها إلى الأرقام المتوقعة.. بل وأن التأييد المتواضع الذي حظي به أي من الطرفين.. جعل التنبؤ بتصور نهائي للأزمة مشوشاً بعض الشيء.. بمعنى أن الأزمة السياسية لم تنعكس على الشارع الروسي كما كان متوقعاً لها. خاصة وأن كل الرهانات كانت تميل إلى ترجيح كفة “البرلمان”.. بعد أن تعثر “يلتسين” في إصلاحاته الاقتصادية.. والتي بدت آثارها واضحة من خلال تدني المستوى المعيشي في روسيا.. وانتشار البطالة والجريمة.. والتي يرى المتشددون من المؤيدين للنظام القديم.. أنها الضريبة التي سيدفعها المجتمع الروسي.. في سبيل التحول نحو اقتصاد السوق.. والذي يرى المتشددون أن انعكاساته قد بدأت تظهر على المستوى المعيشي لأفراد البروجوازية الجديدة الذين أصبحوا يقودون سيارات “مرسيدس“.. و”بي. أم. دبليو”.
المراقبون للوضع.. يرون أن عدم انحياز الشارع الروسي لأي من الطرفين بصورة ترجح كفة أحدهما دون الآخر.. وتوجه الأنظار نحو الجيش لكونه الطرف الذي يملك بالتأكيد مقدرة الحسم في الأمر.. يرون في عدم الانحياز ذلك رغبة أكيدة من قبل الشارع الروسي لإزاحة كابوس النزاع السياسي الذي أصبح أكثر ما يقلق الأمن والاستقرار في الجمهورية التي ورثت مسؤولية أحد قطبي الصراع في العالم بأكمله.
الحذر من الانحياز.. ومن ثم انقسام السلطة في روسيا.. لم يكن رد فعل الشارع الروسي وحده تجاه الأزمة السياسية وحسب.. وإنما كان كذلك رد فعل العالم الذي وقف مشدوهاً ومذعوراً في آن واحد من التطورات في روسيا.. خاصة وأن أحد أطراف النزاع القائم بإمكانه أن يعيد رسم خريطة التحالفات السياسية التي نشأت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.. ومن ثم فتح ملفات صراع لقضايا عالمية كثيرة.. أصبحت شبه معلقة مع انهيار النظام ثنائي القطبية. قد يكون من السذاجة بمكان.. في هذه المرحلة من التاريخ السياسي للبشرية.. الاندفاع في تأييد طرف دون الآخر من أطراف النزاع السياسي في روسيا.. في منطقة تعج بالسلاح النووي.. تحاصرها من كل جانب صراعات قوميات متناحرة ومتقاتلة.. وتتأهب فيها الصين.. المارد الذي يهدد اصطدامه المباشر بأطراف الصراع من حوله.. بفناء العالم بأكمله.. خاصة بعد الإعلان الصيني الأخير.. عن التجربة النووية التي أجراها.. والتي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية.. راعية الحد من التسلح.. ومراقبة وتقليص السلاح النووي.. تعيد النظر في قراراتها التسلحية النووية. إذا كانت هناك ثمة حقيقة يؤكدها تفاقم الوضع بين الحين والآخر في روسيا.. وازدياد حدة النزاع والعنف في كل مرة يتجدد فيها الصراع.. فإنها حقيقة الطريق الطويل نحو الديمقراطية.. والذي أثبت تاريخ الديمقراطيات الأشهر في السجل البشري.. أنه صعب وشاق.. وأن التجربة الديمقراطية.. تجربة لا بد أن تعيش الشعوب مراحلها الأولى.. قبل أن تستقر في مراحلها الأخيرة.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى