ملفات ساخنة

الرداء المصري الجديد

[جريدة القبس 17/7/1993]

قضية من يمول الإرهاب الديني في مصر.. أصبحت قضية تؤرقنا جميعاً كدول وشعوب عربية.. وهو أمر طبيعي ومنطقي.. فبخلاف الحضارة المصرية الضاربة في أعماق التاريخ.. هناك أيضاً الدور المصري الرائد في كل القضايا العربية.. فلقد أكد تاريخ النضال العربي أن لا حروب دون مصر.. وتلك أيضاً حقيقة تؤيدها المساعي المحمومة الآن لزرع السلام في المنطقة.. والتي بدأت من مصر.
فمن جماعات إسلامية.. إلى تنظيمات جهاد.. إلى أخوة عائدين من أفغانستان.. يتعرض الكيان المصري يومياً للتهديد.. ويسقط الضحايا الأبرياء.. وتتراجع السياحة.. أحد أهم مصادر الدخل للدولة.
والسؤال الدائر الآن لمصلحة من كل ما يجري؟! فمع ازدياد حدة التطرف والإرهاب.. تزداد التكهنات.. هناك من يرى أن للإدارة الأمريكية دوراً كبيراً في عدم الاستقرار في مصر.. وهو رأي يرجحه تعامل واشنطن مع أحد أكثر الناشطين في حركة المتطرفين الأصوليين في مصر.. وبحيث أعلنت الدوائر السياسية في مصر عن استيائها للأسلوب الأمريكي في السماح لمثل الشيخ عمر عبدالرحمن.. بإعلان تهديداته وتوعداته عبر الإعلام هناك.. وبحيث كانت السلطات الأمريكية أكثر وداعة في التعامل مع الشيخ عبدالرحمن، على الرغم من الشبهات حول شرعية إقامته.. وبالرغم من التحقيقات الجارية مع ستة من أتباع الشيخ بتهمة تفجير مركز التجارة الدولي في فبراير الماضي.
الدور المصري الكبير.. خاصة فيما بعد اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية.. التي تزعمها الرئيس أنور السادات.. جعل الكثير من الساسة والمحللين يتوقعون أن يعهد الغرب إلى مصر بالدور الرئيسي في المنطقة وقد حاول الرئيس المصري الراحل أنور السادات.. التأكيد على صحة تلك التكهنات.. وذلك بتطبيق برنامجه الاقتصادي الانفتاحي على الغرب.. ليؤكد بصورة أكبر حقيقة التحالف الجديد.. فجاءت في ذلك الحين استضافته لشاه إيران المخلوع كخطوة صريحة منه للدور المصري الذي أصبح مطلوباً منه أن يؤكده. ثم جاء تراجع الصراع بين المعسكرين وإشراف الحرب الباردة على الانتهاء.. ليتأكد الدور المصري الجدير بصورة أكبر.. مع انتفاء الحاجة إلى كيان مثل إسرائيل لحفظ التوازن في المنطقة.
إذا كان ذلك هو حقيقة الدور المصري الآن.. فإن تفسير اتصال واشنطن بحركات المعارضة وبجميع الأحزاب السياسية في مصر.. بل وإعلان واشنطن رسمياً أنها عقدت لقاءات مع جماعة الأخوان المسلمين.. باعتبار أنها لا ترى فيها انتهاجاً للعنف والإرهاب!! وإنما هي جماعة معارضة لا أكثر.. هو تفسير منطقي للاهتمام الأمريكي الغربي.. بالتعامل المباشر مع كل البدائل المطروحة في مصر للنظام السياسي القائم.. خاصة وأن تذمر الشارع المصري من الوضع القائم.. ليس بسبب تزايد موجة الإرهاب الديني وحسب.. وإنما من تردي الوضع الاقتصادي والغلاء الذي يتزايد عاماً بعد عام.. لإيفاء الدولة بالتزامها تجاه القروض المقدمة من البنك الدولي.
إن حالة السخط والتذمر من الوضع القائم.. والتي تسيطر على الشارع المصري.. لا تعود فقط إلى موجات العنف الأصولي.. وإنما هي كذلك في إحساس المواطن العميق.. بأن صفقات السلام والتي تمت منذ 1978 لم تنجب السلام والاستقرار الحقيقيين لمصر.. فما زال جزء كبير من ميزانية الدولة يعود إلى التسلح.. فبحسب تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن فإن مصر تنفق ما يقارب ثلاثة بلايين ونصف البليون في السنة.. أو ما يعادل ٪11 من دخلها القومي.. على التسلح.. وهي نسبة مرتفعة في بلد يبلغ دخل الفرد السنوي فيه 550 دولاراً، وعلى الرغم من انتهاء معظم مخاطر التهديد من جيرانه إثر معاهدة السلام.. بل وأن مبلغاً كهذا إذا ما قورن بإنفاق “باكستان” على التسلح وهي بلد فقير كمصر.. يتعرض لتهديد دائم على حدوده.. ومع ذلك فإن إنفاق “باكستان” على التسلح لا يتعدى ٪7 من دخلها القومي.
أمريكا والغرب يدركان جيداً دور مصر القيادي في المنطقة.. وقد جاءت ترجمة ذلك.. في الدور الرئيسي الذي أسند لمصر سواء في حرب الخليج الثانية.. والتي تعد من أهم القضايا العربية من بعد حرب 67.. أو في المفاوضات العربية الإسرائيلية. ومصر بدورها تدرك جيداً الدور المنوط بها.. وما قضية الإرهاب الديني إلا أحد الاختبارات التي ستعلن عن مدى قدرة مصر على إدارة أزماتها الداخلية.. وبما لا يؤثر في مواقفها الدولية.. أو العربية.
هناك امتناع واضح من قبل الغرب.. عن اعتبار الإرهاب الديني في مصر جزءاً من الإرهاب المزمع محاربته.. وبحيث أصبح غياب الدور الأمريكي الغربي في التصدي للإرهاب في مصر.. مثيراً للشكوك.. بل لقد بلغ بالبعض حد التشكيك في حقيقة الدور المرشح لمصر أن تلعبه.. بينما يرى البعض الآخر أن تجاهل الإرهاب في مصر من قبل مكافحي الإرهاب في الغرب.. هو خطوة أساسية في عملية ترويض مصر المستمرة منذ عهد السلام.
العالم الآن أخذ في لملمة مخلفات الحرب الباردة.. والدور الإسرائيلي القديم هو إحدى الأوراق البالية.. على الرغم من كل محاولات النفي من قبل الإدارة الأمريكية على وجه الخصوص.. والمرحلة المقبلة.. هي بلا شك.. تتطلب من الغرب أن يستعين بحليف آخر.. شرط ألا تكون له طموحات.. كالطموحات المصرية القديمة.. ولا نفقات.. كالنفقات الإسرائيلية المكلفة.. والسؤال القائم هنا هو: كيف سترتدي مصر رداءها الجديد؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى