ملفات ساخنة

الدين والدولة.. هل يلتقيان؟

الدين والدولة.. هل يلتقيان؟

هذا حديث قصدت فيه أن أكون واضحاً كل الوضوح.. صريحاً كل الصراحة.. زاعماً أن الوضوح والصراحة في الموضوع الذي أناقشه استثناء.. فقد صبت في المجرى روافد كثيرة.. منها رافد الخوف ومنها رافد المزايدة.. ومنها رافد التحسب لكل احتمال.. وخلف ذلك كله يلوح سد كبير يدعو إلى (سد) كل باب يأتيك منه الريح. فما بالك إذا أتاك إعصار التكفير.. وارتطمت بأذنك اتهامات أهونها أنك مشكلة.. وواجهتك قلوب عليها أقفالها.. وعقول استراحت لاجتهاد السلف.. ووجدت أن الرمي بالحجارة أهون من إعمال العقل بالبحث.. وأن القذف بالاتهام أيسر من إجهاد العين.. هذا حديث دنيا.. وإن بدا لك في ظاهره حديث دين.. وأمر سياسة وحكم وإن صوروه لك على أنه أمر عقيدة وإيمان.. وحديث شعارات تنطلي على البسطاء ويصدقها الأنقياء.. ويتبعون في سبيلها من يدعون الورع ومن يعلنون بلا مواربة أنهم أمراء.. ويستهدفون الحكم لا الآخرة.. والسلطة لا الجنة.. والدنيا لا الدين. لعلك أدركت أيها القارئ أنني أخوض معك في موضوع قريب إلى ذهنك بأن الإسلام دين ودولة مصحف وسيف.. إلخ. وقبل أن تسألني (وهل تنكر ذلك؟) يجدر بي أن أضعك أمام وجهتي نظر.. كل منهما تقبل الاجتهاد بل وقبل ذلك كله تقتضي الإجهاد.. وأقصد بذلك إجهاد الفكر بحثاً عن حقيقة غائبة”.
كانت تلك أيها القارئ الكريم مقدمة كتاب “الحقيقة الغائبة” للدكتور فرج فودة. والذي أثار حفيظة الجماعات الدينية لما ذكره من وقائع ليست من صنع خياله بل من التاريخ وأحداثه. فجاء حوارهم معه طلقات رصاص أملاً في تغييب أكثر للحقيقة.
ينطلق الدكتور فودة في جولة حول إقامة الدولة الإسلامية من وجهتي نظر: الأولى أن أصحاب الدعوة لتطبيق الشريعة.. يطرحون خلف ظهورهم خلافهم حول رأيهم في المجتمع الحالي.. ويرون أن الحل لكل مشكلات المجتمع.. يكمن في التطبيق (الفوري) للشريعة.. أما وجهة النظر الثانية.. فإن الدكتور فودة يرى أن تطبيق الشريعة ليس هدفاً في حد ذاته.. بل وسيلة لغاية لا ينكرها أحد من دعاة التطبيق وهي إقامة الدولة الإسلامية.. وهنا كما يقول الدكتور فودة (مربط الفرس ومحور النقاش) فما دام حاملوا شعار إقامة الدولة الإسلامية يمتلئون حماساً لإقامتها.. (فلماذا لا يقدمون برنامجاً سياسياً للحكم يتعرضون فيه لقضايا نظام الحكم وأسلوبه.. سياسته واقتصاده.. مشاكله بدءاً من التعليم وانتهاء بالإسكان.. وحلول هذه المشاكل من منظور إسلامي).
وهو ما يراه الدكتور فودة نقطة ضعف جوهرية ويحضرني هنا حوار أجرته إحدى الصحف مع أحد الأعضاء البارزين في حركة “الأخوان المسلمين” في مصر، د. أحمد الملط.. سئل فيه عن السبب في إصرار “الأخوان” على عدم إعـــلان برنامجهم السيـــاسي.. بدلاً من ترديد الشعـــارات. يومها أجاب د. الملط بالنص “حينما تتاح الفرصة ويعلن عن نشاطنا.. وتوافق الدولة على تواجدنا قانونياً.. سوف نعلن كل شيء وهذا البرنامج جاهز للإعلان وعندنا من الطاقات والكفاءات العلمية ما يملأ كل الثغرات”.
ويمضي الدكتور فودة في حديثه حول وجوب فصل الدين عن الدولة.. فهو يرى أن القضايا السياسية قضايا خلافية يبدو فيها الحق نسبياً.. والباطل نسبياً أيضاً.. ويرفض أن يدور الحوار السياسي على أساس الحلال والحرام.. حيث الحق مطلق.. والباطل مطلق أيضاً. وهو ما يصعب تحقيقه في الأمور السياسية. فيستعين الدكتور فودة بأسلوب من أساليب الحكم وهو اختيار الحاكم في الإسلام.. وكيف أنها تصطدم بشرط غريب.. تذكره كثير من كتب الفقه.. وهو أن يكون (قرشياً) والذي لم نجد له مهرباً إلا بتداعيات اجتماع سقيفة بني ساعدة في المدينة والذي اجتمع فيه الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة.. وسارع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجراح إليهم ورشحوا أبا بكر.. وانتهوا إلى مبايعة أبي بكر.. فكانت تلك خطوة لإجهاد العقل.. وبما لا يتعارض مع الدين.. بل من خلال الدين ذاته.. فيقول د. فودة “فانبرى أصحاب الرأي الآخر الذين يؤمنون بحق الأكفاء في الحكم – دون اعتبار لنسبه – إلى ذكر أحاديث مضادة مضمونها أنه لا مانع من أن يحكم المسلمين عبد حبشي أسود (كأن رأسه زبيبة).. فأعادوا للمنطق توازنه”.
ثم يستطرد د. فودة موضحاً أن (أسلوب السقيفة لو كان هو الأصح.. لاتبعه أبو بكر نفسه.. وترك تولية من يليه إلى المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم.. وهو ما لم يفعل حين أوصى لعمر بكتاب مغلق بايع عليه المسلمون قبل وفاته دون أن يعلموا ما فيه.. وهو أيضاً ما خالفه عمر في قصر الاختيار بين الستة المعروفين وهم: علي وعثمان وطلحة والزبير وابن عوف وسعد. وهو أيضاً ما اختلف عن أسلوب اختيار علي ببيعة بعض الأمصار.. ومعاوية بحد السيف ويزيد بالوراثة).
ويرى الدكتور فودة.. أن هذه ستة أساليب مختلفة لاختيار الحاكم يرفض المتزمتون تجاوزها.. ويرى المتفتحون أن دلالتها الوحيدة أنه لا قاعدة.
ثم يقارن د. فودة بين عهدين من عهد الخلفاء الراشدين عهد عمر بن الخطاب والذي امتدت خلافته إلى عشر سنين.. ثم عهد عثمان (إحدى عشرة سنة).. وكيف أن كلا العهدين كان كافياً لكي يقدم نموذجاً للإسلام الدولة كما يجب أن تكون.. ومع ذلك فقد كان عهد عمر شيئاً وعهد عثمان شيئاً آخر.. (فقد ارتفع عمر بنفسه وبالمسلمين إلى أصول العقيدة وجوهرها.. فسعد المسلمون به.. وصلح حال الدولة على يديه) بينما قاد عثمان المسلمين إلى (الاختلاف عليه ودفع أهل الحل والعقد إلى الإجماع على الخلاص منه).
ثم يتابع د. فودة قوله (وعلى الرغم من أن عمر وعثمان قد ماتا مقتولين إلا أن عمر قد قتل على يد غلام من أصل مجوسي.. وترك قتله غصة في نفوس المسلمين.. بينما قتل عثمان على يد المسلمين الثائرين المحاصرين لمنزله وبإجماع منهم) ويطرح هنا الدكتور فودة سؤاله عما إذا كان هناك قاعدة في القرآن والسنة تحدد كيف يبايع المسلمون حاكمهم.. وتضع ميقاتاً لتجديد البيعة وتحدد أسلوباً لعزل الحاكم بواسطة الرعية.. وتثبت للرعية حقها في سحب البيعة كما تثبت لها حقها في إعلانها.. وتعطي المحكومين الحق في حساب الحاكم وعقابه على أخطائه وتنظم ممارستهم لهذا الحق!! أم أن الأمر موكول لضمير الحاكم إن عدل وزهد كان عمر وإن لم يعدل وتمسك بالحكم كان عثمان!! إذاً فالخلاف في أمور الدولة والسياسة حدث والحاكم من المبشرين بالجنة.. والمحكومين من صحابة الرسول c وعشيرته.. لا تحدث واقعة إلا وتمثل أمامهم للرسول فيها موقف أو حديث.. يعيشون في ظل النبؤة.. ويتأسون بالرسول عن قرب وحب. فكيف سيكون الآن الخلاف والشقاق بين دعاة إقامة الدولة الإسلامية.. الذين تجاوزوا القول إلى القتل.. وتجاوزوا المنطق إلى حل الدم.
ما سبق كان بعض ما ذكره الدكتور فرج فودة في كتابه “الحقيقة الغائبة” والذي أراد منه أن يستعرض الإسلام الدولة.. وليس الإسلام الدين.. ويرى أن الإسلام الدولة كان انتقاصاً من الإسلام الدين.. لأن الإسلام كما شاء الله له دين وعقيدة وليس حكماً أو سيفاً.. فالإسلام الصحيح هو التقدم.. هو تحصيل العلم (واطلبوا العلم) وأن مساحة الخصوصية في قضية الدين أوسع وأرحب (F ﵟوَلِلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ فَأَيۡنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجۡهُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ ١١٥ﵞ ﵝالبَقَرَةِ : ﵕﵑﵑﵜ a.
وإذا كان الكتاب قد أثار سخطاً على مؤلفه.. بلغ أن حل دمه.. فإنه لم يحظ بالرد المناسب.. الذي يقنعنا نحن المحكومين بنموذج للإسلام الدولة نسعى لتطبيقه. فبالرغم من أن الفرصة المتاحة للإسلاميين والتي لم تتح لغيرهم من قبل.. سواء بسلاح الإرهاب كما هو الحال في مصر.. أو بما يتلقونه من مختلف أشكال الدعم وفرص للتحرك من الدولة وكما هو الحال في هذا الوطن. نقول بالرغم من تلك الفرص.. فإننا لا نكاد نتبين إنجازاً وطنياً.. شعبياً متكاملاً.. تبنته أو قدمته الجماعات الدينية وحدها. مما يجعلنا نستوحي نموذج الدولة الإسلامية مما هو قائم الآن.. وهي نماذج لا تشجع على السعي للتطبيق. فدولة النميري ومن ثم البشير الإسلامية كانت تقطع أيدي السارق من جهة وتهرب اليهود الفلاشا من جهة أخرى.. ودولة ضياء الحق الإسلامية أفتت بأن الاستفتاء على رئاسته يعني الاستفتاء على تطبيق الشريعة الإسلامية!! جميعهم نطقوا باسم الإسلام.. وشوهوه وهو منهم براء.
لعلَّ الإسلام هو الدين الأكمل.. والذي لا يتطلب الوساطة في عبادته.. وهو دين رحمة يسع متغيرات الزمان والمكان معاً.. وهو بذلك أوسع وأشمل من الدولة بنظمها السياسية والاجتماعية وهو أسمى من أن يكون في حزب أو في عمل تنظيمي سياسي.. وهو أرحم من أن يكفر المجتمع القائم كله. وإذا كان همَّ دعاة الدولة الإسلامية رفع راية الدين حقاً.. لا السلطة والحكم، فأعداء الإسلام الحقيقيون همَّ من خارج الإسلام.. هم من يوقعون بين الأخ وأخيه في شوارع بيروت.. وهم الذين يشعلون الفتنة على أرض مصر.. وهم الذين يمدون ديكتاتوري الأمة بالمال والعتاد ليكون لهم ما يشتهون.. هم الذين يبحثون في ثغراتنا عن نقاط ضعف ينخرون من خلالها. هؤلاء هم أعداء الإسلام الحقيقيون.. إن نحن اتفقنا على رفع راية الدين فلنبدأ بهم.. بدلاً من أن ننقسم في ما بيننا إلى حزب الله.. وحزب الشيطان.. وختاماً فقد a حين أنزل في محكم كتابه ﵟهُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ مِنۡهُ ءَايَٰتٞ مُّحۡكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٞۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَآءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَآءَ تَأۡوِيلِهِۦۖ وَمَا يَعۡلَمُ تَأۡوِيلَهُۥٓ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلّٞ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٧ﵞ ﵝآل عِمۡرَان : ﵗﵜ a.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى