قضايا الوطن

الديكارتي.. طه حسين!

الديكارتي.. طه حسين!

ارتبطت نهضة “أوروبا” إلى حد كبير بانطلاقة المذهب الديكارتي الذي ساهم في تطوير الفلسفة الأوروبية وتدشين عصر التنوير! فهو صاحب المقولة الشهيرة “أنا أفكر، إذاً أنا موجود”، فأرسى معه مذهب العقلانية وأصبح من الشخصيات الرئيسية في تاريخ الثورة العلمية!
جاءت محاولات مشابهة لمذهب ديكارت في العالم العربي، إلا أنه تمت محاربتها، إما بالتكفير أو بالاغتيال أو بالنفي، ولا يزال هذا منهجنا حتى الآن مع كل من يحاول أن ينتهج مبدأ الشك، أو أن يتجرأ على أن يستمد يقينياته من ذاته! فكر فرج فوده بشكل مختلف فاغتلناه، وحاول كذلك نصر حامد أبو زيد فنفيناه، أما الأديب الكبير طه حسين فقد ناله ما ناله من التكفير، ومحاولات الاغتيال!
اعتبر طه حسين (ديكارت العرب)، وكتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر في عام 1926 هو خلاصة ثورته الفكرية، هذا الكتاب الذي بقي محظوراً على دور النشر طباعته، وكان يوزّع سراً كما المنشورات السرية.
أثار الهلع في صدور “المفكرين” التقليديين وشكل ثورة فكرية هدفت إلى إمعان العقل ومواجهة الفكر الأصولي، تماماً كما حاول ديكارت من قبله، ما جعله يتعرض إلى ملاحقة الفكر الأصولي المسيحي في عصره!
كان طه حسين ينظر إلى الشعر العربي من خلال نظرته إلى الأدب، ومن خلال بحثه أدرك أنه أمام رؤيتين متناقضتين: الأولى ترى في أقوال القدماء حقائق علمية تاريخية مُسلّم بها، والأخرى تضع علم المتقدمين كله موضع البحث، وهذا من منطلق الشك المنهجي، الذي لا يخفي طه حسين، عبر كتابه هذا، أنه من أنصار هذا الرأي، لأنه كما يذكر في كتابه “لا نقبل شيئاً مما قاله القدماء في الأدب إلا بعد بحث!”.
تم بالطبع تكفير طه حسين وليس مناقشته، فالتكفير أسهل بكثير من التفكير، وقضيته التي كان بالإمكان أن تودي به إلى السجن تأتي مثالاً للصراع المستمر مع الفكر الأصولي الذي لا يؤمن بحوار قط، ولعل ما يشهده العالم العربي اليوم من عنف ودمار ما هو إلا جزء من حلقة الصراع هذه!
لم يكن هدف طه حسين الإساءة إلى الأدب والشعر والتاريخ العربي، كما يحلو للبعض أن يُثير، فما تناوله من ذلك في كتابه كان بمنزلة الاستشهاد بفرض محاولة لإرساء تقاليد فكرية جديدة في البحث والنقد القائمين على عقلنة الأمور لا نقلها، وتلك هي القضية الشائكة التي لا تزال عالقة بين طرفي الصراع في الوعي العربي.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى