ملفات ساخنة

الحكومة الأصولية!!

الحكومة الأصولية!!

اختلفت التعريفات حول معنى الحرية وحدودها بشكل عام. فالبعض يرى في أن حرية الإنسان هي حريته في أن يتصرف ويسيّر كما يشاء شخصه وأفعاله وممتلكاته وكل ما يخصه ضمن إطار ما تسمح به تلك القوانين التي يعيش ضمن إطارها، وله بالتالي ألا يكون موضوعاً لعسف إرادة الآخر بل أن يتبع إرادته الخاصة بكل حرية.
بينما يرى البعض الآخر بأن الحرية لا يجب أن تكون خاضعة لضوابط السلطة السياسية، وبأنها يجب أن تؤكد على حق المرء في التصرف كما يحلو له شرط أن يحترم حقوق الآخرين في فعل الشيء نفسه، ومثل هذه الحرية تكون في الأساس حرية المرء في أن يظل في منجى من تدخل العناصر الأخرى في حياته، أو كما أسماها أصحاب هذا التعريف “الحرية المشروعة”.
وقد استمدت دساتير الدول الديمقراطية الحديثة من تلك التعريفات “الطبيعية” للحرية نصوصها المختلفة والتي جعلت من حرية التعبير والكتابة والنشر والقول أولى أولوياتها، بل مدخلها الأساسي والرئيسي نحو بناء مجتمع ناهض وتنشئة أفراد واعين ومدركين لما يدور حولهم من أحداث ومتفاعلين مع تاريخهم وجغرافيتهم وحاضرهم، والدكتور أحمد البغدادي هو من نتائج دستور جعل من أولى أولوياته ذلك الحق في حرية التعبير!
المشكلة الحقيقية في حديث الدكتور البغدادي ليست في الاختيار اللفظي الذي استخدمه في إشارته إلى ذات الرسول الكريمة، وإنما هي في تحوّل الدين الإسلامي من عقيدة واعتقاد وإيمان إلى نشاط سياسي يسخرّه البعض وبعنف غريب أحياناً لسلب حقوق الآخرين وحرياتهم التي كفلها الدين والرسول c، قبل أن يكفلها الدستور ومن وضعه. فلقد أورد القرآن في أكثر من موقع إشارات إلى ذلك الحق في التعبير والرأي، فجاء في سورة “المدثر”: F ﵟكُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ رَهِينَةٌ ٣٨ﵞ ﵝالمُدَّثِّر:ﵘﵓﵜ a. كما ورد في سورة “الطور”: F ﵟكُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِـينٞ ٢١ﵞ ﵝالطُّور:ﵑﵒﵜ a. بل وقد ترجمت آية سورة البقرة ذلك الحق ترجمة رفيعة ودقيقة جداً. F ﵟلَآ إِكۡرَاهَ فِـي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيـَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّﵞ ﵝالبَقَرَةِ:ﵖﵕﵒﵜ a.
إذاً، فلقد جاء ذلك التأكيد على حرية الرأي والاعتقاد في القرآن وقبل أن يتضمنه دستور الدولة الداعي في المادة 36 إلى أن حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة. ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو بالكتابة أو غيرهما.
إن ما يؤسف حقاً هو أن يصبح الدين مطية تستعين بها الحركات والفكر الأصولي للثأر من أضدادهم ومنافسيهم السياسيين، وهو أسلوب تستعين به كل الحركات الأصولية في العالم وليس في هذا الوطن وحسب، وقد يرى البعض في ذلك حقاً مشروعاً، أي، أن التنافس السياسي حق تمارسه كل الأحزاب والتكتلات ولا يهم في ذلك أن تكون أحزاباً دينية أو ليبرالية أو شيوعية أو غير ذلك من توجهات، لكن المشكلة هنا أن الصراع بمفهوم الأحزاب الأصولية ليس صراعاً بين فكرين متعارضين، ولا على سياستين متضاتين، وإنما هو صراع بين أهل الإيمان من المسلمين وبين أهل الإلحاد من الكفار، وتلك بحد ذاتها فكرة تلغي كل احتمالات الالتقاء عند نقطة أو موقع يكون فيه الحوار هو السيد، وليس العنف.
إن تاريخ الأصولية في العالم العربي بشكل عام، مليء بحوادث وقصص مشابهة لحادثة الدكتور البغدادي، شن فيها أولئك حرباً شرسة وعنفاً ضد كل محاولة لممارسة حرية الرأي والنشر والتعبير. ولعلّ في أحداث الجزائر الدموية، التي وجّه فيها الأصوليون سلاحهم الدموي ضد مفكرين وكتّاب وشعراء ما يؤكد ذلك، وأيضاً طال ذلك العنف الأصولي والحرب ضد الحرية رجال صحافة وفكر وأدب في مصر العربية، لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا قنوات تربط المواطن بمناخ الحرية ويعبق الفكر الجريء والمتجدد.
ما يؤسف حقاً أن حادثة البغدادي ستكون عرضة لأن تتكرر، لأن الحرية في بلادنا لا تزال بلا تعريف دقيق وواضح، ولأن الحكومة الأصولية مارست ولأول مرة في تاريخ الوطن.. سلطتها كاملة.

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى