شئون عربية

الأشخاص يموتون.. وتبقى الأوطان

الأشخاص يموتون.. وتبقى الأوطان

لعلَّ الجميع قد لاحظ ذلك القلق الواضح الذي ارتسم على وجوه كثيرة شاركت الأردن في تشييع جثمان ملكها الراحل.
فالرئيس الأمريكي “كلينتون” وأقرانه من الرؤساء السابقين اختلط قلقهم بشك وريبة من مقدرة الملك الجديد على حفظ التوازنات السياسية التي كانت بارزة في نهج والده الراحل، كذلك فقد امتزج القلق الإسرائيلي بحسرة واضحة بدت على وجه نتنياهو، وشارون ووايزمان على فراق الرجل الذي كان يحبهم، على حد تعبير “إيتان هابير” المساعد السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل “إسحق رابين”، فقد عبر “هابير” في مقال نشرته جريدة “يديعوت أحرنوت” عن المشاعر الإسرائيلية تجاه الملك حسين، حيث يقول مخاطباً الملك الراحل: “لو وضعت ألف زهرة على ضريحك ستكون إحداها مني، ولو غطت ألف دمعة قبرك، سأذرف إحداها”.
إن مشاعر القلق التي عبر عنها الشعب الأردني، وحالة الإرباك التي طالت دول المنطقة وإداراتها السياسية، تعكس ولا شك حالة الخوف التي يعاني منها المجتمع العربي دائماً عند غياب أي من رموزه!! سواء أكان ذلك الرمز “جمال عبدالناصر” أم “عبدالله السالم” أم “الإمام الخميني” أم “الملك حسين” فحالة الهيجان العاطفي، المصحوب بحمى الدموع عند غياب أي وجه سياسي، هي مشهد لا نراه إلا في دول العالم الثالث، لأسباب لا علاقة لها بدفء عواطفنا وأحاسيسنا مقارنة بالعالم الغربي، وإنما لطبيعة البناء السياسي الذي غالباً ما يربكه أي تغيير في الوجوه والأسماء!!
ولا تختلف في ذلك الدول التي تتمتع ببرلمانات منتخبة، عن تلك التي لا تمارس أي نوع من أنواع التمثيل النيابي، أو النهج الديمقراطي!! وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على خلل في مسيرة الديمقراطية في العالم العربي بشكل عام!!
إن الديمقراطية في معناها الشامل، تعتبر أسلوباً حضارياً يبيح للمجتمع المساهمة ويوفر لأفراده المشاركة السلمية في إدارة الدولة، بمؤسساتها وهيئاتها!! وهي مشاركة لا تتحقق إلا إذا خرجت من قلب مجتمع يدين بالشراكة الاجتماعية والاقتصادية، بمعنى أن الديمقراطية تأتي كنتيجة لتلك المعطيات وليس العكس!! وهو بالتأكيد ما لم تحققه المجتمعات السياسية العربية بعد، على الرغم من قدم بعض الديمقراطيات فيها!! لأنها أساساً لا تؤمن بتلك المشاركة بما جعل من ديمقراطيتها، ديمقراطية الرجل الواحد، أو الحزب الواحد، أو العائلة الواحدة!!
إن الحرية التي تنص عليها الديمقراطية، ليست حرية التعبير والمطالبة فقط، بل هي كذلك في الحصول على ما تطالب به!! من خلال توفير القنوات السلمية التي تمكن المواطن من تحقيق مطالبه!! وهو قطعاً ما لم يوفره المناخ السياسي العربي إطلاقاً!! بل إن كل الشواهد التاريخية تقول إن الحقوق الديمقراطية في المجتمع العربي تتعطل عند حدود التطبيق أو التحقيق!! وهو أمر ينطبق على كل الديمقراطيات العربية ومن دون استثناء، بل وحتى في أقدمها وأكثرها عراقة، ويكفي أن نسترجع هنا كمثال على ذلك الواقع، ما حدث في مصر في 18 يناير 1977، حين حاولت بعض القوى الشعبية والتي تمثل كل الطبقات في مصر أن تمارس حريتها وأن ترفع صوتها واحتجاجها على تلك القرارات الاقتصادية التي أثارت الاستياء العام!! ليحدث ما حدث يومها من اعتقال وسجن، لكل الذين حرضوا على (انتفاضة الحرامية) كما أطلق عليها الرئيس المصري الراحل “أنور السادات“!!
إن النظام السياسي والمجتمعي الراسخ والمستقر هو ما يميز دولة عن أخرى.. والاستقرار عملية تراكمية لا يمكن أن تضمنها ظروف مرحلية مؤقتة، أو أن توفرها أسماء أو شخوص عابرة!! والشعوب العربية التي دائماً ما تنتحب وتنوح لغياب شخص أو وجه لا تأبه لذلك الغياب المستمر لشخصية الوطن الذاتية التي طالما غيبها تزاحم الوجوه والألقاب والشخوص!!
إن ذلك الهلع والقلق الذي يصيبنا كمجتمعات عربية عند غياب أي من تلك الوجوه، إنما يعكس درجة الخلل المتمكنة منا لما يتعلق بمعايير الاستقرار وشروطه!! فالاستقرار الذي يرتبط بوجود وبقاء شخص هو بلا شك استقرار هش وزائف!!
لكن وللأسف يبقى واقعنا الذي أصبح علينا أن ندركه ونعيه لكي نرجو الخلاص منه!! لذا فإن للقلق الأمريكي، والإسرائيلي، والسوري والإيراني تجاه غياب الملك حسين مبرراته الكامنة في طبيعة البنية السياسية للدول العربية!! والتي تتعامل مع الأشخاص كرموز خالدة، غير مدركة بأن الأشخاص يموتون، لكن الأوطان تبقى خالدة!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى