إلحاد أمة العرب

إلحاد أمة العرب
في كل مرة يجتمع فيها العرب لأي شأن كان أو قضية كانت، يبرز السؤال الذي يبقى من دون إجابة شافية: لماذا فشل العرب في الإصلاح والتقدم والتنمية بل وحتى في النضال؟
حاول عالم الاجتماع السوري والأكاديمي في جامعة السوربون الفرنسية د. برهان غليون الإجابة عنه في كتابه “المحنة العربية: الدولة ضد الأمة”، حيث استخدم كل قدراته النظرية والتحليلية ليوضّح جذور المحنة العربية من دون أن يسعى إلى استخدام الفكرة المألوفة التي تقول إن العرب أسرى ثقافة فَرَضَت عليهم مثل هذا الواقع، مشيراً إلى أن الشعوب العربية شأنها شأن كل الشعوب تَتَطلّع إلى التحرّر، والكرامة والحرية، إلا أنها ترزح تحت منظومة سياسية قائمة يأتي على رأسها الدولة العربية، وبأنها ليست كما يُقال أسيرة ثقافتها.
يغوص غليون في تاريخ العرب، وبالتحديد في حقبة السيادة العثمانية ومن بعدها الاستعمار الغربي، ليصل إلى خلاصة بأن الدولة العربية التي خرجت من رحم ذلك التاريخ قد تضاعفت قوتها وزاد شعورها بالتفوّق، ولم تعد تنظر إلى نفسها بوصفها الضامن للنظام في الداخل والحامي له من الأخطار في الخارج، وإنما أصبحت ترى أنها نفسها هي أداة التغيير وتحريك التاريخ، وبعكس ما حدَثَ في الثورة الفكرية الأوروبية حيث لم يكن هنالك نموذج جاهز في أوروبا، وإنما قام التغيير فيها على أساس إزالة القيود على التفكير والتعلّم والتجربة، وإطلاق الحريات السياسية والثقافية وتطوير وسائل العمل والمعرفة. وهو بالتحديد عكس ما حدث في حالة الدولة العربية، حيث تم تقييد وقمع كل أشكال الطاقات الإبداعية والحريات، إلى أن تم اختطاف الدولة الحديثة لمصلحة جماعات، مثل الطوائف والعشائر وشبكات رجال الأعمال والمؤسسات الأمنية والعسكرية. ثم يختم غليون حديثه هذا بأن الدولة العربية الحديثة هي سبب الأزمة التاريخية، وأن المجتمعات العربية باتت اليوم أكثر إيماناً بالحداثة وضرورتها منها، وكما لو أنها، أي المجتمعات العربية، قد بدأت في خوض ملحمة جديدة من البحث في سبيل اللحاق بالعالم من حولها.
ما يوحي به غليون في كتابه هو ما أصبح الكثيرون يتحدثون عنه ويؤمنون به داخل جغرافيا الدولة العربية الحديثة، والتي بدأت فيها الشعوب بالتفوّق على أنظمتها السياسية التي لا تزال عالقة في صراعات ونزاعات عسكرية وسياسية لا تمس جوهر مطالب الشارع العربي الجوهرية، هذا الشارع الذي أصبح مُصراً يوماً بعد يوم على أن إصلاح الشأن العربي لا يكون إلا عن طريق الديمقراطية، مُمَثّلة بالحريات والحقوق والكرامة بكل أشكالها. وهو ما كان مشروع الربيع العربي الذي تم اختطافه من قِبَل تيارات الإسلام السياسي، وبالتحديد الإخوان المسلمين، وبدعم مباشر من الغرب، لما كان يُشكّله كمشروع من خطر مباشر على أهداف تلك الأطراف النفعية والسلطوية.
لقد أدّت الانتكاسة المقصودة في الربيع العربي إلى إلحاد أمة العرب بإمكانية التغيير، فالربيع الذي حوّلته سياسة الدولة العربية إلى شتاء حين سعت إلى إحلال (قامة) سياسية (بقامة) سياسية أخرى مطابقة لها، قد عزّز بلا شك منسوب القهر واليأس في النفس العربية، لكنه لم يقتل الحلم بولادة جديدة.
من الواضح أن هنالك أزمة ثقة بين المواطنين من جهة والحكومات من جهة أخرى في معظم الدولة العربية، وعلى الرغم من سعي بعض الدول القادرة مالياً على خلق مساومات لاستقطاب الرضا والقبول من شعوبها، فإن ارتفاع سقف المطالب الشعبية في الدولة العربية، خصوصاً في ظل الانفتاح التكنولوجي والتواصلي والانصهار الثقافي مع العالم، قد يكون أعلى من قدرة الدولة العربية على الاستمرار في عملية الاستقطاب هذه.
لقد هَرمت الدولة العربية في مقابل تفتّح كل مقومات الشباب في شعوبها، وتلك معادلة حرجة اليوم، نرى مظاهرها في تخبّط واضح تمارسه بعض الأنظمة العربية تجاه شعوبها، إما بالمزيد من الاستبداد والطغيان، وإما بتحريك الجيوش بدموية مفرطة، وإما بترضيات هامشية لا تُشبِع نَهَم الشباب العربي للتغيير والإصلاح الحقيقيين، وبكونهم الفاعلين واللاعبين الأساسيين لسببين: أولهما أن الشباب يشكّل أغلبية المجتمعات العربية، وثانيهما التحوّل الكبير في سلّم الأولويات الذي استقر لدى أغلبيتهم عند الحقوق والحريات والكرامة، والتي وحدها قد تنقلهم من خانة الإلحاد بالدولة العربية إلى الإيمان بالمستقبل القادم.
