الأدب والثقافة والفنقضايا الوطن

إذا الأيام أغسقت

إذا الأيام أغسقت

من المؤسف جداً أن أحداً ـ خصوصاً المؤسسات الثقافية والتعليمية العربية ـ لم يحاول أن يتناول المأساة العراقية من جانبها الثقافي، فقد سيطرت هواجس الخطر العسكري والسياسي القادم من بغداد على كل الهواجس الأخرى! بحيث كان الوجه الوحيد للمأساة العراقية هو في استمرار نظامه الدكتاتوري وخطر ذلك النظام على أنظمة سياسية مجاورة، وغير مجاورة، وجدوى الحصار المفروض وأثره في قدرة العراق التسلحية والهجومية! ولم يحاول أحد، خاصة أولئك المرتزقة والمدافعون زوراً وتملقاً من المتظاهرين بالحرص والاهتمام بالشعب العراقي، لم يحاولوا أن يثيروا مأساة العراق الثقافية المتمثلة في انتشار الأمية بين أفراد الشعب العراقي، وهو الذي كان يتمتع بأعلى نسبة من المتعلمين والمثقفين بين أقرانه من الدول العربية! لم يحاول هؤلاء ولا غيرهم إثارة خطر الأمية الذي بدأ يدب في المجتمع العراقي، ولا الإشارة إلى انعكاساته على واقع الثقافة العربية أو على الدول المجاورة.
وللذين يودون الاطلاع بصورة مجهرية ومقربة تلخص لهم الواقع الذي آل إليه المصير الثقافي والتعليمي في العراق، ما عليهم سوى الاستعانة بكتاب يحوي رواية للراحلة حياة شرارة بعنوان “إذا الأيام أغسقت” تترجم فيه الكاتبة حال المثقف العراقي، وحجم التراجع الذي سجله مؤشر الثقافة والتعليم في عاصمة الرشيد نتيجة لاستمرار نظام القهر والدكتاتورية الذي شل المجتمع ثقافياً وفكرياً قبل أن يفنيه روحاً وجسداً، عنوان الرواية “إذا الأيام أغسقت” هو بحد ذاته رمز لمكان كان مضيئاً ثم أخذ يدب فيه الظلام، المكان هو جامعة في العراق، والظلام ينتشر في بلد الحضارات ويمتد إلى موقع تدريسها، والرواية تكثيف حياتي لمعاناة أستاذ في حياته الجامعية تعبيراً عما يجري في دنيا الثقافة المحاصرة من جميع الجهات!
حياة شرارة كانت أستاذة في جامعة بغداد، ترعرعت في جو أدبي، والدها محمد شرارة، شاعر وأديب انتقل إلى بغداد في منتصف الأربعينيات قادماً من النجف، وأظهرت حياة موهبة أدبية منذ نعومة أظفارها، أحبت الشعر الحديث وحفظته عن ظهر قلب، جالست بدر شاكر السياب ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة وبلند الحيدري، الذين كانت تضمهم لقاءات أسبوعية شعرية في بيت والدها محمد شرارة! عاصرت حياة شرارة من خلال ذلك المناخ الثقافي الثري الكثير من الأحداث العربية الفاصلة، بدءاً بنكبة 1948 ومروراً بالأحداث الصاخبة، التي مرت في تاريخ العراق، ووصولاً إلى مغادرتها لهذه الحياة في الأول من أغسطس 1997.
يلخص كتاب “إذا الأيام أغسقت” واقع حياة المثقف العراقي، فالرواية تسجيل لحياة الفرد الجامعي العراقي ومعاناته اليومية في إيجاد لقمة العيش محاولاً أن يصون كرامته وكيانه كإنسان مفكر، بالرغم من الجو القاتم الذي يحيطه ويطبق عليه من جميع النواحي المادية والمعنوية والفكرية التي صورتها حياة بدقة في روايتها التي أشبه ما تكون باليوميات، ففي أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية التي ابتلعت أجيالاً من الشباب وأصبح الشعور السائد بين الطلبة شعوراً باللامبالاة والخوف من إرسالهم كطعام لعجلة الحرب، فتعمد بعضهم الرسوب وإعادة السنة ليتمكن من قضاء مدة أطول في الدراسة تهرباً من التجنيد، حيث شعرت حياة في تلك الفترة بانعدام التجاوب بين الأستاذ والطالب، فكتبت في إحدى رسائلها: “التجاوب بيننا وبين الطلاب ضعيف، والرغبة في التعلم أضعف، لذلك يشعر المرء بعبث الجهود المبذولة والعلم أصبح بضاعة خاسرة”.
تأتي رواية حياة شرارة منذرة أهل الفكر والثقافة العرب، ومستنجدة بكل من يهمه شأن الشعب أو الفرد العراقي بعد أن سيطر الخوف على المثقف في العراق، فأصبح العنصر الوحيد المحرك لكيانه أو كما وصفته حياة بقولها: “ذلك الخوف الكالح الذي إن تفوهت بكلمة غير مقبولة قلب مصيري وجعله بلونة،كنت أمشي تحت ظلاله الكثيفة وأنزع عني شخصيتي وشعري الأشيب والغضون التي تخطط جبيني وما تحت عيني وأعود شباباً”.
ترى من يملك أن يجيب عن تساؤلات حياة شرارة ويعيد للثقافة وللمثقف في العراق شبابه؟! أم إنه كتب عليهم كما كتب علينا أن ننتظر طويلاً في طابور الحسم العسكري والسياسي!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى