أمنية القرية الكونية للعام الجديد

أمنية القرية الكونية للعام الجديد
مع انقضاء السنة الأولى للألفية الثالثة يعود الجميع لحمى الأمنيات والتمنيات التي تزدحم بها أجندات السنة الجديدة مستبشرين بها خيراً ومتأملين معها رخاء وسعادة.
إجمالاً، لم تكن فاتحة الألفية الجديدة سارة وسعيدة، فلقد سيطرت الكوارث الطبيعية على أغلب شهورها، واشتعلت الحروب وافتعلت المجازر في أكثر من موقع وأكثر من دولة.
وقد اختلف الناس في تفسير ذلك، فمنهم من أرجع ذلك إلى ظواهر فلكية نادرة أثرت على الكثير من نواحي ومظاهر الحياة فوق الأرض، ومنهم من اكتفى بالمراقبة ونفى أي تفسير آخر غير الفعل الإنساني.
مما لا شك فيه أن وضع البشر قد وصل إلى مرحلة لم تعد تفيدها الأمنيات ولا التطمينات، فالأرقام والإحصائيات التي تنشرها مؤسسات وجهات مختلفة في العالم تؤكد حجم المعاناة الإنسانية التي يتضاعف حجمها وأثرها ودرجتها مع كل عام جديد يدخله التاريخ البشري.
تقول بعض تلك الأرقام إن هنالك مئة مليون طفل يعملون أو يعيشون في الشوارع، وإن 48 دولة الأكثر فقراً في العالم تحصل على 4 في المئة من الأموال الموظفة في الاستثمار، وإن 80 بليون دولار هي قيمة الأموال الإضافية التي تحتاج إليها الدول النامية لتقديم الحد الأدنى من الخدمات الأساسية إلى المواطنين فيها، كذلك فإن مليون مليون (أي تريليون) دولار هي قيمة ثروات أغنى مئتي شخص في العالم فيما لا يزيد مجموع دخل 592 مليون شخص في الدول الـ 43 الأكثر فقراً في العالم على 146 بليون دولار.
هنالك أيضاً 30 ألف طفل يتوفون يومياً بسبب الأمراض والأوبئة وسوء التغذية، و18 مليون شخص يموتون سنوياً بسبب الأمراض الوبائية، بينما هنالك خمسة ملايين شخص قتلتهم الحروب خلال عقد التسعينيات وأصيب ستة ملايين آخرون بجروح.
أما آخر تلك الإحصائيات والأرقام فهي ما يتعلق بالحريات والحقوق، حيث يتعرض ثلث نساء العالم للعنف المنزلي، بينما تبلغ نسبة المقاعد البرلمانية التي تشغلها النساء في العالم 14 في المئة فقط.
لن يكون صعباً علينا تحديد أمنياتنا للعام الجديد في ظل إحصائيات وأرقام كهذه، فالصورة المخيفة لصحة البشر البدنية والنفسية التي تعكسها بصراحة تلك الإحصائيات، تحتم علينا كدول وكمؤسسات وكأفراد وكهيئات التحرك وبسرعة للخروج بهذا الوضع الإنساني البائس من واقعه الراهن والمخيف، وإذا لم يكن ذلك لدوافع إنسانية، فليكن على الأقل لأسباب سياسية أصبحت تفرضها “نظرية” القرية الكونية الواحدة التي تقول باختصار إن لا استقرار ولا رخاء عالمياً إلا باستقرار شامل ورخاء عام وممتد عبر كل الحدود الجغرافية والسياسية.
إن الحاجة إلى تفعيل دور المؤسسات الدولية والعالمية وتحييدها سياسياً قد أصبحت حاجة ضرورية وليست مجرد أمنية موسمية نعلنها ونعبر عنها مع دخول كل عام جديد، وقد رأينا كيف أخفقت منظمة التجارة العالمية عن تحقيق برامجها وأهدافها حين تجاوزت ذلك الشرط (العالمي) مما أخرج المتظاهرين والمنددين بتلك الازدواجية في سياتل العام الماضي، وفي غيرها من العواصم والدول.
إن أمنيات العام الجديد لا بد أن تأتي متفقة ومتناسقة مع واقع القرية الكونية الواحدة، فلم يعد بإمكاننا أن نتمنى منفصلين أو منعزلين عن الغير، ولم تعد المخططات والبرامج والمشاريع المنغلقة سارية ونافذة ما لم تجد في مقوماتها فرصة وباباً للخروج إلى العالمية، لذلك تأتي أمنية هذا العام بثوب كوني يضفي الرخاء والاستقرار على أكبر مساحة من الجسد الكوني العاري الذي مزقه الجوع والعنف والكساد.
