شئون عربية

أسطورة سوار الذهب

أسطورة سوار الذهب

خلال الشهور الأولى من عام 1985 تقلد الفريق أول “عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب” منصبه وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للجيش السوداني، وهو المنصب نفسه الذي كان يتولاه الرئيس السوداني السابق جعفر نميري، وفي أبريل من العام نفسه وعقب الانتفاضة الشعبية، أعلن سوار الذهب بنفسه قرار القوات المسلحة الانحياز إلى جانب الشعب السوداني، ووضع حد لحكم نميري، وعين رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي الذي أسند إليه مسؤوليات السيادة في السودان، وأنيط به الإعداد لنقل السلطة إلى المدنيين عبر انتخابات نيابية تجرى خلال عام واحد. وقد كان هنالك رهان على ترك العسكريين للسلطة طواعية، ولكن الفريق سوار الذهب أثبت وفاء بالوعد الذي قطعه عند تسلم السلطة، وتم نقل السلطة إلى الحكم المدني في السادس والعشرين من أبريل 1986، وعاد العسكر إلى ثكناتهم، وتم حل المجلس العسكري، وتقاعد المشير سوار الذهب!! إلا أن ذكراه بقيت عالقة في أذهاننا جميعاً، ليس بسبب إنجازاته العسكرية أو السياسية، وإنما بسبب تراجعه وتنازله الطوعي عن الكرسي والقيادة. وهو أمر يحوي من الغرابة الشيء الكثير، خاصة في مجتمعاتنا العربية، حيث يتحجر ويُخلد البعض في مناصبهم وكراسيهم بدءاً بناظر المدرسة ومروراً بمسؤولي الدولة ووصولاً إلى القادة والزعماء في قمة الهرم السياسي!!
في سؤال وجهته إحدى الصحف آنذاك لسوار الذهب حول اللحظات، التي كانت أكثر خطراً في حياته العملية، وعما إذا كانت الصعوبة في تسلم السلطة أم تسليمها، أجاب فيه بأن تسلم السلطة قد جرى خلال ظروف كانت مهددة، أهم ما فيها ألا تراق قطرة دم واحدة من دماء السودانيين، حيث قام بدراسة الأوضاع الجارية، والتعرف على وجهة نظر العسكريين حرصاً منه على ألا يحدث إنشقاق في صفوف الجيش والقوات المسلحة، وقد كان لا بد من الاحتياط لبعض الفئات، ومعالجة الوضع بحكمة لتفادي أي محاولة للإجهاض. أما أيام تسليم السلطة فقط تم الإعداد لها لفترة كافية لأنه كان مهدداً باحتمالات متعددة مثل عدم نجاح الانتخابات أو عدم اقتناع بعض القوى السياسية بمنهاج التغيير، وتسليم السلطة للأحزاب.. وعلى الرغم أن سوار الذهب قد كان حذراً وخائفاً من ألا يتم تسليم السلطة بطريقة سلمية، إلا أنه اعتبر تسليمها أخف بكثير من لحظات استلامها!!
لقد رسم سوار الذهب آنذاك سلوكاً ونهجاً بعيدين كل البعد عن ثقافتنا السياسية المعتادة، وبدا لغالبية المجتمع العربي كسلوك شاذ اجتهد الكثيرون لتفسيره وتبريره، لأنه كان خارج النسق المألوف بغض النظر عن الظروف المحيطة بالسودان ونظامه أو الظروف اللاحقة التي أعقبت تلك الفترة.
واليوم في الكويت يثمن الكثيرون اعتذار نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الشيخ سالم الصباح عن عدم تولي منصب وزاري في الحكومة المقبلة لأسباب احتفظ ببعضها، وأعلن منها ما يتعلق بظروفه الصحية. يقدر الكثيرون للشيخ سالم ذلك الاعتذار، وهذا الموقف الذي اتخذه في سبيل دفع عجلة التعاون والعمل في الوطن بشكل عام!! لا يهم كيف ولماذا أعلن الشيخ سالم اعتذاره، ولا تهم كثيراً طبيعة الظروف التي دفعته إلى ذلك الإيثار سواء كانت ضغوطاً سياسية أم عائلية.. ما يهم هنا أنه كان شجاعاً في تغليب المصلحة الجماعية على أي مصالح ذاتية أو آنية، ليصبح اعتذاره سابقة ستحرج الكثيرين، وإيثاره رمزاً وإشارة لغير القادرين في أي موقع كانوا، وفي أي زمان، ولكيلا يصبح سلوك سوار الذهب مجرد أسطورة ومثال نضربه في حديثنا عن الإيثار!!

اقرأ أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى